ترى الباحثة المصرية يمنى طريف الخولي (1955) أن القائلين إن العلم لا وطن له "يقصدون العلم الغربي بوصفه العلم العالمي الكوني الواحد، ولكن لا، فإن مفهوم "البردايم" (النموذج) يعبّر عن التواشج بين العلم والبيئة والقيم والخصوصيات الثقافية التي ينشأ فيها، فالمنهجية الإنكليزية تعني التجريبية العتيدة، والمنهجية الألمانية تعني طابع العلوم الدقيقة والاستدلال المحكم، والمنهجية اليابانية هي روح الجماعة ونبذ الفردية".
كان ذلك ضمن محاضرة افتراضية ألقتها رئيسة قسم الفلسفة في جامعة القاهرة، الخميس الماضي، تحت عنوان "الأصول التراثية للمنهجية العلمية المعاصرة"، بتنظيم من "معهد المخطوطات العربية". بدأت الخولي المحاضرة بالقول "سوف أدخل في موضوع المحاضرة من المنهجية ذاتها، فلنتفق بداية على أن العلم ظاهرة متدفقة في السياق الحضاري، وأنه ينشأ في إطار ثقافي يشتبك مع باقي مكوّنات الحضارات الإنسانية، واليوم لا تقتصر فلسفة العلوم على دراسة الظواهر بل تفهمها كمؤسسة ثقافية في إطار ما يسمى بالنموذج القياسي "البردايم" الذي يؤطر العلم بالمنهجية".
من هنا تبيّن صاحبة "العلم والاغتراب والحرية: مقال في فلسفة العلم من الحتمية إلى اللاحتمية"، أن "المنهجية أبعد من مجرد مناهج البحث العلمي والخطوات والإجراءات، بل إنها تحتوي المنهج وتتجاوزه، إنها المجال الأعم لفاعلية إعمال العقل العلمي المنتج في موقعه، فالمنهجية هي ما وراء المنهج أو الميتامنهج، وقد انزاحت الأغلوطة التي تزعم أن العلم لا وطن له ولا هوية، وكأن العلماء ليسوا بشراً يعملون في إطار إنساني متعيّن وكأن البحث العلمي يدور في سديم وليس في منظومة حضارية".
تقول إن "موضوع المنهجية العلمية في الدائرة الإسلامية في عالم ما بعد الاستعمار وما بعد المركزية الغربية يحمّل كل حضارة مسؤولية تحقيق الذات ونشدان الهوية، فالثقافة الإسلامية مدججة برصيد معرفي هو التراث الذي تخلّق على مدى قرون متوالية بفعل أجيال متلاحقة ليمثّل رحلة عقل أمة ومساراً حضارياً يحمل منظومة قيمية ورؤية للوجود تمثل معالم الثقافة الإسلامية".
علم أصول الفقه في جوهره لا يعدو أن يكون علماً بمناهج البحث
وتكمل "حمل التراث الإسلامي أعباء مرحلة مفصلية من تاريخ العلوم التجريبية والرياضية، من القرن الثامن الميلادي إلى القرن الثالث عشر وملأ الفراغ الحضاري الممتد منذ إغلاق مدارس الفلسفة في الإسكندرية إبان العصر الروماني وحتى بروز عصر النهضة في إيطاليا". معتبرة أن هذا الملء هو "المقدمة الشرقية المفضية لمرحلة العلم الحديث في أوروبا وثورته العظمى في القرن السابع عشر، وتبلورت في تلك المرحلة آيات ومنهجيات، فأصول البردايم والنموذج المعرفي الإسلامي أصول متينة ومهيأة لمواصلة المسير وتوطيد الظاهرة العلمية".
تتابع الخولي: "وحين ينطلق الوعي من المنهجي العلمي المتجدد المعاصر مسلحاً بمخزون من التراث فذلك كفيل بتوطين العلمي ونفي غربته واغترابه فلا تعود الروح المنهجية العلمية غربية غريبة مستوردة، لأن حضارتنا حضارة اتصال لا انقطاع".
تذكر الباحثة أن المنهج تصدّر عناوين عديدة رائدة في التراث الإسلامي، مثل ابن رشد في كتابه "مناهج الأدلة في عقائد الملّة" وابن تيمية في "مناهج السنة"، وتشير إلى أن الأمر "ليس مجرّد ورود لفظة فقد شهدت الحضارة الإسلامية نشأة واعدة للفكر المنهجي، وهذا يفسر الدور المعرفي الذي لعبته في مرحلتها الذهبية كما يتجلّى في مناهج المتكلمين الجدلية، والأفلاطونية المحدثة، والفلسفة الإسلامية، والبرهانية المشائية، ومناهج المتصوفة العرفانية، ومناهج العلوم التجريبية".
كما تلفت الباحثة إلى أن "علم أصول الفقه يكشف عن قدرة العقل الإسلامي على تحويل الدين إلى علم والوحي إلى منطق والنص إلى منهج".