حين أعلنت عن نفسها روائيةً، عام 2005، من خلال عملها الأول "سواقي القلوب"، كانت إنعام كجه جي (1952) قد خاضت تجربة طويلة في العمل الصحافي، حتى صارت من كتاب التحقيقات الصحافيّة الذين يشار إليهم في الإعلام العراقي. كأن كجه جي بذلك كانت تدرّب موهبتها وتصقلها كتمهيد لخوض مغامرة الكتابة السردية التي تراها شبيهة بالإسفنجة، لكونها تمتص كل شيء.
لا تجد كجه جي حرجاً في اعتبار رواياتها تحقيقاتٍ صحافية كبيرة، إذ ترى صاحبة "الحفيدة الأميركية" أن هذين الحقلين الكتابيين يشتركان في هاجس واحد هو الاقتراب من نبض الحياة ورصد تفاصيلها. ومن ثمّ، فإنّ الحكم عليهما، كما تقول، لا بد أن يكون من زاوية القدرة أو الفشل في القبض على تلك التفاصيل والهواجس والأسئلة. وتذهب الكاتبة، المقيمة في باريس، إلى التساؤل: "لماذا نربط العمل الصحافي بكل ما هو سطحي؟ لا أرى الروائي أعلى قيمة من الصحافي".
غادرت كجه جي بغداد إلى باريس منذ أكثر من ثلاثين عاماً للدراسة في جامعة "السوربون". كان ذلك عام 1979. رغم كل هذه المدة، تقول كجة جي إنها لم تعتبر نفسها يوماً منفصلة عن بغداد. "لم يحدث أن غيّرت سريري أو أثاث بيتي في باريس على مدار عشرين سنة، لأنني كنت على أهبة العودة في أية لحظة". غير أن هذا الشعور سيختلف مع دخول جنود المارينز الأميركيين إلى بلدها. "تلك كانت اللحظة الأولى التي أحسست فيها بأنني صرت منفية فعلاً".
تعود مؤلّفة "طشاري"، العمل الذي نافس على جائزة "بوكر" ووصل إلى قائمتها القصيرة هذا العام، إلى بداياتها وطفولتها في بغداد. "بدأتُ شاعرةً"، تقول، مشيرة إلى أنها، كجميع العراقيين، نشأت مبرمجةً على الشعر لدواع لا تتعلق إلا بالحياة العراقية. "قلة من هؤلاء تخون القصيدة، وتعتنق السرد، لاحقاً. شخصياً، لم أكن أتوقع أنني سأكتب رواية، لكن ثراء التجربة، في ظل الخراب العام، قادني إليها".
ترى كجه جي أن بغداد، باعتبارها مدينة تحتفي بالجمال والفن والحياة، أجهضت على أيدي أولادها قبل الغرباء، مشيرة إلى إنها لم تعد تبحث عن المدينة، لتستعيدها في غربتها، إلا في لوحات الفنانة التشكيلية البريطانية لورنا هيلز، زوجة النحات العراقي جواد سليم. شاركت كجه جي في عمل سيَريّ عن هيلز حمل اسمها. تصفها بالقول إنها "كانت تنزل إلى الساحات والأزقة، وتلتقط ملامح الإنسان والمكان، وكأنها أدركت مبكراً أن تلك الملامح ستختفي يوماً ما".
تعتبر أنها تتعامل مع "بغدادها" على أنها حلم. هكذا درّبت نفسها كي تتمكن من تفسير المنفى واحتماله، "فليس للحلم جغرافيا معينة. إلى أي عراق سأعود؟ ذاك الذي في خيالي، أم ذاك الذي فرّ فيه أهلي بألبسة النوم من الموصل حتى ينجوا من الذبح؟". لا بد أن يكون هناك أثر للاغتراب على الكتابة؛ فرق أو خيط رفيع بين حميمية كتابتها لبغداد التي تركت، وتناولها لباريس التي تعيش فيها منذ عقود. عن الكتابة والمكان توضح الروائية أنها كتبت عن مدن كثيرة، بما فيها تلك التي لم تعرفها إلا من خلال "غوغل" والأشرطة الوثائقية، حيث يلعب الخيال دوراً كبيراً. لكن الكتابة عن مسقط الكلمات الأولى تظل حالة خاصة.
إعجاب الروائية بالماضي، واحتفاؤها به في نصوصها، ليسا من باب النكوص أو الفشل في التعاطي إيجابياً مع الحاضر والمستقبل، بل من باب الحفاظ على التميمة التي تتركها الجدات للأحفاد، ووضعهنّ لها في ملابسهم الداخلية لا يمنع هؤلاء الصغار من السير إلى الأمام الذي يقتضي إحساساً خاصاً بأن هناك ما يحصّنهم من المآلات الخائبة.
ليست المرأة في روايات كجه جي مجرد شريك في الفضاء والعطاء فحسب، بل هي روح الحياة نفسها، والمحرّضة عليها، وحارسة ذاكرتها. تقول: "أؤمن بأن ما ينتظر العرب من مفاجآت سارة، سيكون على يد المرأة. وإصراري على أن يكون الصوت الأنثوي مهيمناً في متوني السردية مستمد من هذه القناعة".
اشتغلت الكاتبة أيضاً على أكثر من عمل تناول نساء عراقيات كنّ في طليعة الفعل الثقافي أو السياسي، فأصبحن أيقوناتٍ جديرة بالاقتداء، منهن نزيهة الديلمي، إحدى رائدات الحركة النسوية العراقية، وأول امرأة عربية تتولى وزارة، عام 1959. وقد أعدّت عنها كجه جي فيلماً وثائقياً وأخرجته لتلقي الضوء على تجارب العراقيات الأولى في المشاركة السياسية.
أما الكاتبات العراقيات اللواتي كتبن داخل الخراب، فقد قاربت تجاربهن في كتاب باللغة الفرنسية بعنوان "كلام العراقيات" (2003)، تناولت فيه كيف كُتبت التراجيديا العراقية بأقلام النساء العراقيات أنفسهن، وكيف اختطفت الحرب هؤلاء الكاتبات من مواضيع الحب والحياة العادية إلى تجسيد المنافي والفزع الناتج عن الحرب وفقدان المكان.
قدّمت كجه جي نفسها ونساء بلادها بالعربية والفرنسية، وترجمت أعمالها إلى اللغتين، حتى أن عملها "الحفيدة الأميركية" صدر بالفرنسية بعنوان "إذا نسيتك بغداد". وما زال مسعى الاحتفاء بالمرأة العراقية وخصوصية تجربتها هاجساً لديها، تكرّسه أكثر في روايتها الجديدة التي تكتبها هذه الأيام. بطلة كجه جي الجديدة صحافية عراقية كانت تترأس تحرير مجلة سياسية عام 1947، وهي اليوم في التسعينيات من عمرها. تقول: "أعطتني هذه الصحافية كرّاساتها، وأعطاني حبيبها كرّاساته، علماً أنهما لم يلتقيا منذ 58 عاماً، وسيلتقيان في هذه الرواية. أنا أعمل على كتابة رواية عن الحب بعد أن طاردت الحرب كتاباتي".
تقول الروائية العراقية إنها لا تتعاطى مع شخوص نصوصها باعتبارها دمى، بل بوصفها كيانات حرّة داخل فضاء السرد، لا تتدخل الكاتبة في تحديد مصائرها وتوجيه قناعاتها إلا من باب ما يمليه عليها المنطق الروائي. "لا أجيز لنفسي أن أحاكم أخلاقياً من أكتب عنهم. هذه ليست وظيفتي. لم أدن الحفيدة الأميركية، مثلاً، على أنها عملت مترجمة لصالح جيش الاحتلال، رغم أنها وظيفة تنبذها الروح الوطنية، وإنما تعاملتُ معها باعتبارها ضحية. غير أنني لا أتعاطف مع النماذج التي تهدد القيم والحياة الإنسانية، مثل الدواعش. لا أجد نقطة يمكن أن ألتقي معهم فيها".