دائماً ما أتذكر معرض الفنان الفلسطيني كمال بُلّاطه الذي أقامه في "غاليري كلود ليمان" في الدائرة السادسة من باريس (1996). غرابة ذلك المعرض تكمن في اسمه المكتوب باللاتينية "بور سيموفي" والذي يستعيد قضية غاليليو وعبارته "ولكنها تدور" مستحضراً روح التحدي عند المفكر الحر. تلك الروحية ليست بعيدة عن معرض بلاطه الحالي الذي أطلق عليه اسم "بلقيس" في غاليري ميم في منطقة القوز في دبي والذي يستمر حتى 31 يوليو/ تموز 2014.
حين ذكّرته بمعرض الباريسي ذاك واسمه اللاتيني، قال: "أجل كان ذلك المعرض تحية لهذا العالم المتمرد الذي اتهمته السلطات الكنسية بالتجديف لأنه كان يقول بأن الأرض دائرية وهي التي تدور حول الشمس وليس العكس، وقصة سجنه وتعذيبه معروفة. المعرض، بشكل من الأشكال، استعادة لرؤية غاليليو التقدمية".
ألوان معرض "بلقيس" أضاءت صالة العرض بكاملها. خليط من ألوان الماء والشمس والهواء والتراب والسماء والبحر ودرجات لونية لا نهاية لها. هل تعمدت، أستاذ كمال، هذه التشكيلة اللونية المستوحاة من عناصر الكون؟ أجابني ضاحكاً: "أتريد الحقيقة؟ لم أكتشف ذلك عندما بدأت برسم هذه اللوحات، ولم أفكر بهذه العناصر: النار والماء والهواء والتراب، بل أن ناقداً أرجنتينياً هو من أوضح لي بأن تلك العوائل اللونية في لوحاتي تنتمي إلى العناصر الكونية، لكنني رسمتها بشكل عفوي، وجاءت هكذا. ضربات فرشاة عشوائية، تجمع بين تناقضات كل حركة. إنها صور أو لوحات كبيرة، رسمت نحو خمسين تخطيطاً من أجل دراستها إلى أن توصلت إلى هذا الحل. وتطلب مني رسمها وتخطيطها وقتاً طويلاً".
كمال بلاطه لا يقوم برسم لوحاته مباشرة إلا بعد دراسة متأنية: "العمل الفني بالنسبة لي هو عمل فكري قبل كل شيء".
أنت فنان متفرغ للرسم والكتابة بل يعيش من أعماله؟ "أجل، هذا صحيح. عادة ما أقيم كل سنتين أو ثلاث معرضاً منذ أن كان عمري عشرين سنة، ويمكنني القول منذ كنت طفلاً في القدس. كنت أعمل أشياء فنية صغيرة، في السبعينات، كنت أرسم لوحات مشخصة لكنني بعدها انتقلت إلى رسم الأعمال التجريدية".
أخمن أنك انتقلت إلى الأعمال التجريدية بمغادرتك القسرية لفلسطين؟ "هذا صحيح، كنت أميل إلى الرسم التشخيصي في فلسطين أو في البلدان العربية لكن بانتقالي إلى الخارج بدأت بالرسم التجريدي، ربما لأن نظرتي للفن قد تغيرت". ثم يضيف: "في السبعينات عندما كانت الثورة قائمة رسمت كثيراً من الملصقات الثورية، رسمت نحو 200 ملصقاً بالعربية والإنجليزية لصالح الثورة وكانت عبارة عن لوحات سياسية". لكنني سرعان ما سألته: وهل الثورة في فلسطين انتهت، عندما تقول كانت؟ يجيب بعد تأمل: "الثورة قائمة الآن في أعماقي".
"بلقيس 3"، أكريليك على قماش، 120×328 سم (كمال بلاطه 2013) |
يجمع بلاطه بين الفن والنقد التشكيلي، وكتبه عن الفن الفلسطيني تعد أهم مراجعه في العالم. كيف يفكر الفنان بهذه الثنائية؛ الرسم والنقد؟ وهنا يشير إلى كتبه ووثائقه القديمة وبعض مخطوطاته المعروضة في صناديق زجاجية داخل معرض "بلقيس"، وهو يشير تحديداً إلى كتابه عن الفن الفلسطيني: أفسّر في كتابي هذا كيف أن الفنانين الفلسطينيين الذين عاشوا في فلسطين كانوا يرسمون لوحات تشخيصية، لكن بخروجهم منها لجأوا إلى الفن التجريدي.
تتكرر فكرة الوطن في أعمالك، فما هو الوطن، وأي وطن هي فلسطين، ذلك الجرح العربي العميق، ينظر إلى لوحاته من جديد، قائلاً: "الوطن تحوّل إلى متابعة فكرية وعاطفية، وأنا محاط بأناس أغراب: في إيطاليا أتكلم الإيطالية، في أميركا أتكلم الإنجليزية، في فرنسا أتكلم الفرنسية، في ألمانيا حالياً أتكلم الألمانية، هكذا كما تراني أحمل وطني في لوحاتي". وهل تعيش من أعمالك؟ يضحك: "طبعاً لا عمل لي سوى الرسم والكتابة لكنني لو كنت في العالم العربي لما استطعت أن أفعل ذلك. نعم أعيش من لوحاتي الفنية وكتاباتي. في الواقع، عندما كنت بعيداً عن الوطن، تسنى لي أن أنظر عمودياً في نفسي. وكلما ابتعدت أغور في أعماق القضايا الجمالية التي جاءت من التراث العربي الاسلامي، فهي تحتوي على مادة عظيمة للإبداع".
من يعرف الفنان يتذكر تجاربه في الخط العربي، ولكن أين أصبح الخط من لوحاتك؟ أجابني باهتمام: "في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات كانت لديّ أعمال من هذا النوع، وهي لا تزال موجودة في غاليري ميم. هناك بحث عن شيء له علاقة بتراثنا ولكن بشكل معاصر، لا أنقل التراث وأضعه على اللوحة كما هو، بل أضيف له من حياتنا المعاصرة، خاصة بعد انتقالي إلى المراحل الأكثر تجريدية".
وقبل أن أسأله عن التأثيرات، يستطرد قائلا: "عندما ذهبت إلى الغرب أعجبت بالفن المعاصر وبعد أن أمضيت سنوات فيه بدأت أرجع إلى الفن في القرون الوسطى، وهنا دخلت في قراءة جماليات الفن الإسلامي. يمكنني القول، إنني في كل مرحلة أهتم بتيار معين، ولا أقول أتاثر به. في العشرينات من العمر، كنت أحاول أن أقلد الفنانين الذين أعجب بهم، أكرر رسمهم بشكل كبير ومن ثم أحطم كل شيء عملته حتى أتحرر من ذلك. على سبيل المثال، كنت معجباً بالفنان بول كلي الذي قال: أتمنى لو كنت أول إنسان رسم خطاً مستقيماً. وهذا دلالة على أنه جاء من محل ثان، وهو ليس مجرد إضافة بل نتيجة تفاعل مع فن سبقه. الصوت الشخصي في الفن هو الذي يؤسس معنى الأصالة في عمل الفنان".
"بلقيس 2"، أكريليك على قماش، 120×328 سم (كمال بلاطه 2013) |
هناك فنانون انتهوا بمجرد خروجهم من بيئتهم، وأنت على عكس هؤلاء، كيف؟ يضحك قائلاً: "حتى أتمكن من الحياة، اكتشفت أنني اتعايش مع المكان الذي أوجد فيه كأن المكان هو البحر، وأنا مثل السفينة. يعني أنا في البحر، لكن ليس من أهل البحر. كثير من الفنانين رجعوا إلى الوطن العربي بعد الانتهاء من دراستهم في الخارج وصاروا مثل سمكة كبيرة في بركة، لكنني دائماً أفضل أن أكون سمكة صغيرة في بحر كبير. إنني أعيش مغترباً منذ العام 1967 وحتى الوقت الحاضر".
الآن أنت تعيش في ألمانيا، لماذا ألمانيا بالذات بعد إيطاليا وأميركا وفرنسا، ظهر لي الفنان كمال بلاطه شارداً في ذهنه كأنه يذرع تلك السنوات الطويلة بذاكرته ولوحاته وهو الآن في الثانية والسبعين، قائلاً: "كل مكان له مغامرته الخاصة، كما تعلم، وأنت عشت الغربة، أنا حالياً أخوض مغامرة العيش في برلين، وهي مدينة غنية يوجد فيها ثلاث دور أوبرا عملاقة، وما يزيد على 60 قاعة للموسيقى الكلاسيكية وعدد هائل من المتاحف القديمة والمعاصرة، حياة كوزموبوليتية لم أرها حتى في نيويورك ولا في باريس ولا في روما. والألمان عندهم فهم للتاريخ الاستعماري الذي كان موجوداً عند الفرنسيين والبريطانيين، وهم أهم من كتب عن الأدب العربي والفن الإسلامي، إضافة إلى أن ألمانيا هي وطن الفلسفة. وهم أو من كتب عن ابن رشد، كلها أسباب تجعلني أتعلق بهذه المدينة".
لم يجبني الفنان عن أغلى سعر للوحة باعها، مؤكداً بأنه في العادة لا يأخذ سوى نصف مبلغ لوحاته من الغاليريهات. وعن مشاريعه الجديدة، قال: "أتابع مشروعي الحالي في أعمال أخرى تكملة لمعرض بلقيس". لماذا بلقيس؟ أجابني بابتسامة عريضة: "بلقيس رمز أساسي في تطوير جماليات الفن الإسلامي لأنها هي التي ركزت على مسألة الانعكاس في قصة قصر سليمان والزجاج. استوحيت الأسطورة ورسمت منها لوحات المعرض الحالي".