يرى الشاعر العُماني سماء عيسى (1952) أن مؤسّسات قمع الإنسان شرقاً وغرباً، وهي تتصدّى لبحث الإنسان عن الحرية، كانت في الوقت نفسه تتصدّى للشعر أيضاً، وأننا - في المقابل - بقدر ما نقترب من الشعر، يبتعد عنّا في رحلة غامضة من المجهول وإلى المجهول، إلى درجة أننا "لن نقطف وردة الشعر حتى والزمن يقطف وردة العمر".
يحدّثنا عيسى في لقاء مع "العربي الجديد"، عن مجموعته الشعرية الجديدة قيد الإنجاز "لا تفارق الأشجار مواطنها الأولى"، فيعود إلى أوائل السبعينيات مع مغامرته الأولى في كتابة "قصيدة نثر" في القاهرة.
كانت، كما يقول، محاولة غير واعية لهذا الشكل الجديد من الكتابة، إذ يؤكّد أن ما دفعه إليها هو الرغبة في الانعتاق من الأطر التقليدية والبحث عن أشكال وقوالب جديدة، دون أن يكون في ذلك ادّعاء بمجد "أوّل" من كتب قصيدة النثر في عُمان، ولا أي شيء آخر.
يتذكّر الشاعر بأنه كان في طفولته يرى أشجار السَمُر الصغيرة (شجر الأكاسيا) أطفالاً موتى، ومن هناك تكوّن لديه عشق جماليات الهجير والأطلال والأشياء المنسية والبعيدة والمفقودة، ليراها في سنوات نضجه أكثر جمالاً وحضوراً وودّاً من الحضور والفرح والبهجة والرقص والمتعة التي سرعان ما يضجّ ويهرب منها - على حد تعبيره -، وهذا ما قاده إلى ما يسمّيه "المنفى الجمالي" في الشعر.
يعتقد صاحب "غيوم" بأن الشاعر لا يستطيع إلا أن يكون منفياً، والمنفى الجمالي ليس كما يفهمه بعض النقاد بأنه اختلاق وادّعاء، فالشاعر، كما يراه سماء عيسى، منفيٌّ بطبيعته في أي مكان وزمان، فهو يُخلق منفياً، ولكي يستطيع أن يستمر كشاعر، عليه ألاّ يتوقّف عن هذا التوتر، فهنا ينتهي المنفى ويعود كبقية الناس؛ أي تنتهي حالة نفيه.
هنا يضرب عيسى مثَل الشاعر الفرنسي سان جون بيرس الذي عاش المنفى الوجودي بالمعنى الجمالي الذي يعنيه، ذلك المكان البعيد بالضرورة، البعيد عن مسكنه، والشعر كان بالنسبة إليه مسكن اللغة، واللغة مسكنها المنفى.
يعتبر صاحب " نذير بفجيعة ما" أن الشاعر يظلّ قادراً على التنبؤ بالفجيعة، لأنه ينصت إلى الأعماق الداخلية للأشياء، وبالتالي فهو قادر على معرفة الدواخل التي تُفضي إلى ما هو غير مرئي.
ينظر الشعر، بحسب عيسى، إلى الحركة الداخلية ويذهب إلى الينابيع ويثير الأسئلة البعيدة التي قدّمت هذا المشهد أو تلك التجربة. لذلك، فالشاعر قادر على الاستبطان واستشراف المستقبل، مؤكداً أن الفجيعة الآن أكثر فجائعية، وأنه حين كتب مجموعة "نذير بفجيعة ما" عام 1987 ونشرها في نيويورك في العام نفسه، استمدّ أجواءها من التجربة العُمانية السياسية في مرحلة المد الوطني، أكثر من التجربة العربية، مضافاً إليها بعض التجارب الشخصية.
يكشف صاحب "دم العاشق" أنه ظلّ يعاني من مشكلة شخصية مع الشعر، والإبداع إجمالاً، طوال أكثر من عقدين من الزمان (للشاعر اشتغالات في السينما والفن التشكيلي) وأن ظهوره الإعلامي المتأخّر على الساحة الثقافية في بداية التسعينيات جرى بشكل تدريجي وليس على نحو مفاجئ.
يقول إن الأمر جرى على ذلك النحو، لأنه لم يكن قادراً على الحسم إن كان مبدعاً أصلاً أم أنه غير مبدع، وانعكس هذا الإحساس على تأخّر إصدارته الشعرية بما فيها الكتابات الأولى في السبعينيات التي نُشرت بعد ذلك، ضمن دراسة نقدية صدرت هذا العام للشاعر هاشم الشامسي بعنوان "سفر في وردة الغياب.. التجليات الجمالية في شعر سماء عيسى".
يضع الشاعر العُماني نفسه أحياناً في عالم السينما، يكشف لنا أن "التمثيل صعب.. هو أصعب من الكتابة". يقول عن تجربته تلك: "حينما كنّا نذهب للتصوير في الريف أو الصحراء، كانت مشاهد الفيلم تتشكّل في مكان التصوير وليس في السيناريو، وهذه إشكاليات أعمال الهواة، وبعض المشاهد تطلع أفكارها هناك. وبما أنه من الصعوبة إحضار ممثّل، كنتُ آخر الموجودين لأمثّل دوراً رُسم في لحظته".
يضيف "على العكس من ذلك، في أفلام التجربة الأولى، مثل "الوردة الأخيرة" و"شجرة الحداد الخضراء" مع حاتم الطائي في الثمانينيات، كنت أعرف مسبقاً أنني سأمثّل، لأنه لم يكن يوجد ممثّلون مغامرون وواثقون، نظراً لوجود الرقابة وعدم الترخيص والخوف من السلطة، وكنت أغامر كممثّل مع كل هذه الممنوعات".
أما عن الفنون التشكيلية، فهو يشير إلى أنه دخل إلى هذا العالم مُحباً للفن ومقدّراً للتجارب الفنية، ومن خلال علاقات صداقة ربطته بفنّانين تشكيليين عُمانيين. يتذكّر عيسى أن فكرة سيطرت عليه في التسعينيات حول وحدة الفنون وضرورة صهرها في بوتقة واحدة، وهي فكرة تجسّدت في تجربة فنية جماعية في عُمان، هي تجربة "جماعة الدائرة للفن المعاصر".
أسّس عيسى الجماعة بمعية التشكيليَّين أنور سونيا وحسن مير والشاعر زاهر الغافري. يتحّدث عن ذلك قائلاً "كنّا نعرض الفن التشكيلي والفيديو آرت والشعر والقصة والمسرح والتصوير الفوتوغرافي في مقر الجمعية العمانية للفنون التشكيلية"، يقول ذلك متحسّراً على انتهاء التجربة.
سألناه عن فكرة الموت التي تتكرّر ظلالها في شعره بصيغ متعدّدة، فأجاب بأنه لا يعرف إلى أية درجة يُكرّر نفسه، ويشير إلى أن السؤال طُرح عليه أكثر من مرة بصيغة: "لماذا لا تخرج من هذه الثيمة؟".
يرى أنه لا يستطيع الحكم، من موقعه، على صحّة هذا التقييم، مضيفاً أن الشاعر يتحرّك ضمن ثيمات محدّدة يقضي عمره في محاولة تطويرها، وكأن الكلمات تأخذ ظلالاً أخرى، مشيراً إلى أنه على الصعيد الشخصي، صار يتقبّل فكرة الموت أكثر، كلما تقدّم في العمر.
يضيف أن المرء حين يعيش ستين عاماً ثم يدلف إلى العقد السابع، عليه ألا يتقبّل الموت فحسب، بل عليه أن يتقّبل كل شيء، إذ لم يعد العالم كما نريد بل كما يريد هو، هذا العالم موجود كما رسمته القوانين الكونية بصرف النظر عمّا إذا كانت اجتماعية أم سياسية أم وجودية، ممّا يضعه أمام واجهة عقلانية تقول له تقبّل الموت كما تتقبّل الحياة تحت أي شكل من أشكال الأنظمة.
في ختام حديثه، يبوح صاحب "لا تفارق الأشجار مواطنها الأولى" بأنه لو أُتيح له أن يعيش وحيداً في مكان بعيد في هذا العالم، فلن يكون هذا المكان سوى عُمان لأنه لا يشعر بطمأنينة وراحة بال، خارج هذا المكان الذي ينتمي إليه وتنتمي إليه تجربته الشعرية: "هناك في قرية الدَمّهْ في صحراء الشرقية أو في أية قرية جميلة في عُمان، أريد أن أغمض عيني إلى الأبد، كوردة في الصحراء، فهي المكان الأوّل والأخير بالنسبة إليّ".
اقرأ أيضاً: محمد عزيز لحبابي: قلق بين ثقافتين