في تونس، اختتم، منذ أيام، معرضٌ لأحد أبناء غزّة، الفنان إياد صبّاح. عن المعرض، يقول في حديثه إلى "العربي الجديد": "بدأت فكرته حين تمكنت من الوصول إلى القدس عام 2014، بعد غياب عن المدينة منذ 2000. هالني أن المدينة لم تعد كما كانت، فقد تغيّرت الكثير من ملامحها التي تجسّدها، خصوصاً تلك المعالم القديمة، وأخذت مكانها مبانٍ ضخمة. وعلى مستوى إنساني، أحسست بأن الكثير من الجماليات مقموعة، وأن الخيال منطفئ، وفقدان الأمل طاغ".
يضيف الفنان الفلسطيني: "التغيّر في مدينة كالقدس محزنٌ، التاريخ مهدّد بالتلاشي. لقد كان لهذه الزيارة أثرها في بناء موضوع معرض في ذهني، وكنت أرى أن قضية القدس أعمق من المنطوق الإعلامي الذي تظهر من خلاله، فحاولت التعبير عن حقيقتها فنياً".
عن عنوان معرضه يقول "استلهمته من مقطوعة موسيقية سمعتها في إحدى السهرات في تونس لـ محمد علي كمون بعنوان "صلّينا في القدس بلا هوية". كان ذلك في بداية استقراري في تونس، في شهر آذار/مارس الماضي، هكذا بدأت أجسّد أفكاري في لوحات".
يثير استخدام اللوحات سؤالاً حول هذا الخيار، خصوصاً أن صبّاح نحّات بالأساس، يقول "الأمر لا يتعلّق تماماً بخيار، فبما أنني غير مستقر في تونس لفترة طويلة، فقد خيّرت اللوحة كحامل للمشروع، باعتبار أن النحت يحتاج إلى مساحة وثوابت يتحرّك بينها الفنان، إضافة إلى إمكانيات من أجل إنجاز مشروع متكامل. اللوحة كانت الإمكانية المتاحة لتنفيذ المشروع".
يتذكّر صبّاح كيف قرّر أن يجعل من النحت فنّه الرئيسي "لم أكن أفكّر في النحت حتى دخلت الجامعة. وفي أوّل حصّة للنحت، حين دخلت المشغل، واجهتني التماثيل فأحسست بجاذبيّتها. وكأنها كانت تقول إنها موجودة، فهي تأخذ حيزاً في المكان، فلا يمكن عدم الاعتراف بوجودها. أما اللوحة، فمنذ أن نقلّبها على ظهرها، فهي لن تصير عملاً فنياً". يضيف "أحسست بأن المنحوتة، كونها تعبّر عن ذاتها بهذا الشكل، ذات قدرة قوية على التعبير عن فكرة الفنان".
بخصوص ملامح تجربته، يوضح: "أعتبر المبالغة ركيزة في أعمالي، أو بالأحرى مفارقة الجمع بين المبالغة والاختزال". يضيف "هناك عنصر قار في أعمالي هو الجسم الإنساني، حيث أعكس فوقه كل القضايا التي أطرحها مثل الحرب أو الحرية". يرى صبّاح أن النحت "فن فكريّ بالأساس، حيث يحتاج إلى عصف ذهني دائم، ولا يمثّل التنفيذ سوى جزء يسير من المشروع".
لعلّ عمله التنصيبي في غزة عن ضحايا حي الشجاعية وشهدائه إثر القصف الإسرائيلي، صيفَ 2014، يعدّ أشهر أعمال صبّاح. يقول عنه "حظي بكثير من التغطية الإعلامية، وقد حاولت فيه أن أوثّق فنياً ما حدث".
كثيرة هي الأعمال التي أنجزها النحّات الفلسطيني في غزة، منها تمثال داخل الفجوة التي أحدثها صاروخ ضرب "دار الكتاب"، وعمل بعنوان "انطلاق طائر الفينيق"، وآخر بعنوان "حلم العودة" في خان يونس. يذكر أيضاً أنه أعاد بناء تمثال أنجزه المصريون في غزة عام 1956 ودمّره الاحتلال الإسرائيلي في 1967، يقول عنه: "بعد أن أعدت إنجازه، تعرّض إلى محاولات تدمير من قبل متشدّدين، إلى أن دُمّر بشكل كامل في 2009".
هكذا نرى أن الفن في غزة مهدّد من قبل جهتين: اعتداءات الاحتلال وبعض القوى المتشددة. عن هذا التهديد وانعكاسه على العملية الفنية، يعترف صبّاح بأنه يزرع "إحساساً قاسياً بمحدودية الإبداع". يوضّح "كثير من الأفكار المجنونة تجد في داخلك خوفاً يمنعك عنها أو عن التقدّم فيها بشكل سلس. ردود الفعل وتوقّعها جزء من عملية الإبداع الفني وتطوّرها".
لكن، ما مصير هذه الأعمال المجنونة؟ يجيب "غالباً ما أدوّنها في مذكرات خاصة، حين أفعل ذلك أفكّر بأنني يمكن أن أنجزها في مكان ثان ووقت آخر، لكن أعتقد أن ذلك لن يكون بالحماسة نفسها التي ولدت معها الفكرة".
لا يقصِر صبّاح مأزق تنفيذ الأعمال النحتية على التهديد الذي يطاولها، فالأمر "يتعلّق أيضاً بأفكار ما بعد الحداثة التي تُنظِّر لأعمال ضخمة وفي أماكن عامة". يعطي مثال عمله في الشجاعية، حيث إن فكرته الرئيسية كانت إنجاز 500 تمثال لكل من ماتوا في عملية القصف، لكنه اضطرّ إلى تقليص الفكرة لعدم القدرة على تنفيذ ذلك بالإمكانيات المادية المتوفّرة.
يضيف "هكذا نرى أن أفكار ما بعد الحداثة تُدخل عناصر أخرى تتشابك في عملية إنجاز عمل فنّي مثل المناخ الثقافي والتمويل والتصريحات الإدارية من أجل العرض في فضاء عام".
حول تقبّل الفن جماهيرياً في الشارع، يقول "العالم متفاوت، وهذا راجع إلى تعوّد الناس. في غزة، وأعتقد في مئات المدن العربية، لا يمكن ترك عمل فني في الشارع وضمان سلامته". يذكر أن عمل الشجاعية لم يُعرض سوى ساعة واحدة في غزة، وهو منذ ذلك اليوم "حبيس" الأتيلييه.
اقرأ أيضاً: منذر جوابرة.. في حضرة الغائب الملثّم