بينما كانت تقوم في فلسطين الثورة الشعبية ضد الانتداب البريطاني والحركة الصهيونية، بين عامي 1936 و1939، لم يكن فيلمون وهبي (1918 - 1985)، الذي تمرّ ثلاثة عقود على رحيله، قد بلغ العشرين من عمره بعد.
كان واحداً من العاملين في إذاعتي "القدس" و"الشرق الأدنى" حينها، وكان يجوب مسارح فلسطين ويؤدّي عليها أغاني لعبد الوهاب، إضافة إلى أعمال من الفلكلور اللبناني. في تلك المرحلة المبكّرة، كتب وهبي مخاطباً أحد مسؤولي الانتداب بأغنيةٍ جاء فيها: "يا حضرة المستر دل/ لا تظن الأمة بتخل/ لكن أنت سايرها/ يمكن عن يدّك بتحلّ".
أنشد الأغنية الفنان الفلسطيني نوح إبراهيم، كما وضع وهبي واحداً من ألحانه الأولى لأغنية وطنية، منها: "يا شباب البلاد/ يا أسود الزمن/ أسرعوا للجهاد/ قد دعانا الوطن".
هكذا، وقبل أن يغادر فلسطين عام 1948، بدأ وهبي يضع خطواته الأولى على طريق الفن، فاستمع إليه فريد الأطرش وعبد الوهاب الذي أثنى على تجربته لاحقاً، رغم أن وهبي لم يكن يجيد حتى قراءة النوتة؛ ما جعله يعتمد كليّاً على موهبته الفطرية وذاكرته.
لكن عدم تعلّمه النوتة، لم يحُل دون غزارة إنتاجه الذي لم يصلنا كثير منه، لأنّه لم يحظَ بالتدوين؛ فكان وهبي ينسى بعض ألحانه أحياناً، خصوصاً أنّ كثيراً منها كان يؤلَّف بصورة ارتجالية تزامناً مع قراءته للقصيدة التي بين يديه.
تأتي خصوصية ألحان وهبي، واختلافها عمّا وضعه الرحابنة تحديداً، بسبب تأثّره بالموسيقى العربية/ الشرقية، والمصرية خصوصاً، ما عدا أغنيات اسكتشاته الساخرة التي تعتمد أكثر على الإيقاعات اللبنانية. في وقتٍ ما، تخلّى وهبي عن استخدام اللهجة المصرية في بعض أغانيه، بناءً على قرار وزير الأنباء (وزارة الإعلام آنذاك) رياض الصلح، الذي منع استخدام لهجات أخرى غير اللبنانية.
لكن هذا لم يمنع صاحب "يا رايح صوب مشرّق" من الارتكاز على الأسلوب المصري في تفاصيل ألحانه، خصوصاً الشعبية منها، نتيجة تأثّره بعبد الوهاب، إلى جانب أنّه عاش فترة في القاهرة قبل عودته إلى لبنان. هذا ما يفسّر أنّه وضع ألحاناً لكل من شريفة فاضل وشادية، إضافة إلى فيروز وصباح ونجاح سلام وسميرة توفيق وغيرهن.
جمع "شيخ الملحنّين" نوعين من الغناء قلّما التقيا، الجاد والساخر؛ إذ اشتهر صاحب "طيري يا طيارة" باسكتشاته التي مثّلها وأغانيه المكتوبة أو المرتجلة الساخرة، سواء من الوضع الاجتماعي أو السياسي، والتي لم يخلُ كثير منها من العبارات المُقذعة، لكنّها كانت خفيفة الظلّ أيضاً. اتّسمت معظم هذه الأعمال بارتكازها على قوالب لحنية لبنانية تقليدية، قابلتها كلماتٌ جديدة وفكاهية، إضافة إلى تلقائية الأداء.
عندما اتّجه وهبي إلى التعاون مع الرحابنة وفيروز، ظهرت شخصية أخرى له في التلحين، مختلفة تماماً عن أسلوب الرحابنة الذين تأثّروا أكثر بالموسيقى الغربية، ألحاناً وتوزيعاً.
بدت شخصية وهبي تميل إلى استخدام القالب التقليدي للتكوين اللحني بأجزائه الموسيقية ونقلاته بين فواصل الأغنية والمسافات بين النغمات وطول الجمل ونسبتها إلى بعضها بعضاً، بل امتدّت، أيضاً، إلى استخدام أجواء القالب التقليدي: العاطفية أو الوطنية أو الشعبية، وأحياناً الأقرب إلى تهويدات الأطفال، مثل "تك تك يا ام سليمان".
تميّزت جمل وهبي اللحنية الطويلة بالسلاسة، وجاءت المواويل في كثير من ألحانه، مثل "فايق يا هوى"، التي بدا فيها الموّال أكثر لياقة وسلاسة وانسجاماً مع صوت فيروز، خصوصاً إذا ما قارنّاه ببعض ألحان الرحابنة التي كانت تفتقر إلى المرونة، مع أن كليهما كان يعتني بدقة النوتة والبناء العام للعمل الموسيقي.
لكن ما كان يُحسب لوهبي أكثر، هو براعته في الارتجال اللحظي، فرغم عفويّته، إلّا أنّه لم يخلُ من الانسجام وحسن الصياغة. تنتمي كثير من ألحان وهبي إلى المدرسة التعبيرية التي تحافظ على أناقة الجُمل وسلاسة انتقالها بين النوتات، والتي رغم منطقيتها، إلا أنها لم تكن دائماً مُتوقّعة، بل أحياناً تبدو مُفاجئة للأذن، سواء في ألحانه لنفسه، أو لغيره، وهذا ما يظهر في ألبوم "دهب أيلول"، الذي لحّن وهبي كل أغانيه، وكتب كلماته الراحل جوزيف حرب.
من الأمور التقنية اللافتة أيضاً في أعمال وهبي، سلاسة سير إيقاعاته التي كانت أقرب إلى الإيقاع المصري، مثل المقسوم البطيء. كان يُفاجئ المستمع أحياناً بانتقاله من المقسوم إلى الإيقاعات اللبنانية والشامية، ثمّ يعود منها، وبسلاسة، إلى الإيقاع الأساسي.
في بعض المسرحيات والأغاني التي وضعها وهبي، كان زياد الرحباني هو عازف البيانو في الفرقة التي تؤدّي اللحن. يُمكن القول إن زياد تأثّر كثيراً بأعماله، وهذا ما يجعل بعضهم ينسب أغنيتي "سألوني الناس" و"حبّيتك تنسيت النوم" إلى الأول. ومن هنا، نجد أن صاحب "وقمح"، برع أيضاً في الغناء الجاد، وذلك النقدي الساخر.
اقرأ أيضاً: روحي الخمّاش: وترٌ سابع من فلسطين