لا أحد يعرف، بالضبط، كيف استطاع الفنان، بشار الحروب، جمع كل هذه الهياكل المتشظّية للبشر، أولئك الذين جمّدتهم لحظة رعب كثّفت ولع الإنسان بالشر، وكيف استطاع تثبيتهم على لوحات صامتة، بكل نظراتهم الصاخبة بالوجع، وجعل منهم عرضاً فنياً في "غاليري 1" في رام الله.
تبدو شخصيات الحروب وكأنها ناجية من محرقة أو حرب عالمية جرت للتوّ، لا وجود للهوية الشخصية بالمعنى البسيط، أو الجنساني أو حتى الملامح الجميلة أو الأقل جمالاً، حتى الأطفال بلا طفولة أو براءة، بل هياكل عظمية وحّدتها الهشاشة في انتظار المجهول.
الكل ينتظر اللحظة التالية بعيون مفتوحة على اتساعها، لكن الفنان يترك اللحظة المرجوّة لخيال المشاهد، ماذا عساها أن تكون؟ لحظة موت تنهي حفلة الرعب أم لحظة خلاص؟ لا أحد يعرف، حتى الفنان نفسه، ماذا ستكون اللحظة التالية، لأنه مسكون باللحظة الحالية التي بات فيها الموت سهلاً، يوزَّع على النساء والأطفال والجنود والعجائز على حد سواء.
اشتغل الحروب لمدّة عام على معرضه الحالي، "شاشة صامتة"، مأخوذاً بقدرة الإنسان على صناعة الموت، ثمّ توثيقه في بث مباشر تزداد ضراوته بفعل المؤثّرات الأخرى، وكأنه عرض مسرحي يومي.
في عشرين لوحة من الأحجام الكبيرة والمتوسّطة، احتوت الكائنات البشرية المهشّمة الهشّة، على خلفيات لونية فاقعة، تعكس حالة الموت المبهرج الذي بات الإعلام يحسن إخراجه ونشره. عن ذلك، يقول الحروب، لـ "العربي الجديد": "القتل ليس جديداً في التاريخ البشري. الجديد هو ما يجري حالياً من قتل تحت الضوء وبهرجة التقديم البصري المبهر، وكأن هناك نوعاً من المتعة في صناعة مشاهد وزوايا لقتل البشر".
يبدو الحروب مسكوناً بأوجاع ضحايا الحروب، والبؤس الذي يلفّ البلاد العربية، حيث يعترف الفنان بأنه قام بعمله على مدار عام مدفوعاً بمشاهد الموت والبؤس، التي تشهدها المنطقة العربية خلال ولادة "الربيع العربي" الصعبة.
تبدو تكوينات بشار الحروب الهشّة، مثل درس تشريح أُعيد مراراً وتكراراً، حتى حفظ الفنان نتوءات عظام الهياكل وشكلها، مبقياً على ملامح خاصة لكل تكوين بشري في حالته المنفردة، فمثل الحياة، كانت شخوص الفنان منفردة ومستقلّة الشخصية، لكنها تتشابك في هياكلها المجرّدة ومصيرها أيضاً، وجميعها تشترك في عدم وجود هوية للمكان.
يقول الحروب: "في لحظات الرعب والجوع/ تتلاشى الفوارق بين البشر: الغنى والفقر والحالة الاجتماعية أو الهوية الدينية والوطنية، كلهم يشبهون بعضهم بعضاً.. أليس هذا صحيحا؟".
ربما تجيب وسائل الإعلام على سؤال الفنان؛ فقد بات من الصعب إيجاد فروق بين وجوه البشر الخائفين من البراميل المتفجّرة في سورية أو وجوه البشر الهاربين من قصف الطائرات في اليمن وليبيا أو العراق وغزّة.
ضمّت إحدى اللوحات مجاميع لهياكل بشرية تبدو كما لو أنّها فرّت من يوم القيامة، تحيل إلى إحدى أشهر الصور التي نشرتها وسائل الإعلام عن مخيم اليرموك، بعد رفع حظر التجوّل عنه. رغم الخلفيات الفاقعة، إلا أن لوحات الحروب تقبض القلب، وتترك روح المشاهد قلقة وترغب في الرحيل عن المكان.
حتى الأطفال في اللوحات تحيلهم التكونيات الفنية إلى مشاريع موتى مستقبليين، وإن لم يموتوا في اللوحات. لكن الإسقاطات النفسية للطفل الذي يحمله جندي، فيما يحمل الطفل التفاحة، أو كما في لوحة أخرى يمسك الطفل بحبل رُبط فيه ديك مذبوح، تنوب عن جيل كامل من الأطفال سيحمل ميراثاً كبيراً من العنف.
يقول الحروب: "رغم البؤس، ما زال في أعمالي أمل، لأنني ركّزت على لحظة قبل الموت، أي وهم ما زالوا أحياء، صحيح أنهم واقفون في مشهد موت جماعي، لكنهم ما زالوا أحياء، والأهم أنهم في حالة مواجهة وليس نكوصاً".
لا يكترث الحروب لفكرة لوحاته الصادمة، والتي يصعب اقتناؤها. يجيب على سؤال "من يرغب في اقتناء كل هذا البؤس؟"، قائلاً: "المشروع الفني هو مشروع فكري بحت، ومن غير الضروري أن أعمل لأرضي أذواق الناس. باختصار، لا يعنيني أن يتم اقتناء هذه اللوحات في بيوت الناس، يكفي أن تصدمهم وتزرع فيهم أسئلة متوتّرة وغاضبة. هذا يكفي".
يبدو أن هذا ما يقوم به الفنان الفلسطيني في السنوات القليلة الماضية، والتي شهدت تطوراً ملحوظاً في مسيرته الفنية. أعمال فنية مختلفة الوسائط من فيديو ولوحات وتركيب، كلها تزرع المزيد من الأسئلة في عقول مشاهديها، ولا تحمل أية طمأنينة أو إجابات معلّبة.
منذ عشرين عاماً، والحروب يتنقّل، أو كما يقول، "يلحق بفراشته التي لا يعرف أين ستأخذه". بدايةً، أخذته من قريته خاراس في الخليل، وهو ابن 17 عاماً، إلى نابلس ليدرس الفن التشكيلي، وبعدها إلى رام الله ليعمل عدّة أعوام، وها هو الآن يتنقّل في العالم من دولة إلى أخرى لينجز مشاريعه الفنية، فيما تقتني أعماله متاحف في نيويورك ولندن والأردن ولبنان والشارقة.
وبكل ما يحمله الفن من مواربة، يدّعي بأن أعماله ليست سياسية، لكن من يرى انشغالاته ومواضيعه يدرك أن الفنان غارق في السياسة والقضايا الوطنية، التي يحاول إخراجها من سياق محلي صغير إلى سياق إنساني أوسع، وهاجس سياسي أوسع أيضاً.
يبدو الأمر جلياً في عمله الفني "أرض الألماس"، وهو عمل تركيبي يقوم على مفارقة ساخرة؛ فاليهود أمهر القائمين على تجارة الألماس، بينما "إسرائيل" تقوم يومياً بسرقة قطعة من الألماس "الأرض" من أرض فلسطين المحتلة.
كومة كبيرة من الألماس المسروق تكوّمت على الأرض في إشارة إلى استمرارية عملية السرقة، وبقي القليل من الأرض على الخارطة، في عمل تركيبي في الفراغ، رفض صاحبه أن يعرضه في أحد معارض الولايات المتحدة الأميركية بعد أن مارس اللوبي الصهيوني ضغوطاً على المتحف لتحريف العنوان الفني للمعرض إلى آخر تطبيعي، فما كان من الحروب إلا أن رفض المشاركة في المعرض قبل ثلاثة أيام من افتتاحه عام 2014.
وفي "أقل قداسة"، وهو عمل فني آخر مثقل بالسياسة عُرض في القدس المحتلّة العام الماضي، قام الحروب بإعادة تفكيك مدينة القدس ورسمها مرّة ثانية، ليأتي العمل صادماً؛ فالمدينة المقدسة تتلاشى بفعل التهويد وعنصرية الاحتلال الإسرائيلي.
يبيّن الفنان: "أعمل في السياسة من خلال عملي كفنان، أبحث في مفاهيم إنسانية، مثلاً أقوم بوضع القضية الفلسطينية في سياق التساؤلات الكبيرة، وأبرزها مفهوم الاستعمار، وعقلية الدمار ومحو هوية البلاد وبناء ملامح جديدة للمكان".
يختم قائلاً: "مثل أي فلسطيني، أنا مثقل بالهمّ السياسي، لكنّي لا أصوّره بشكل مباشر. أنا لا أشكي ولا أبكي، بل أضع المشاهد أمام حقيقة يعيشها، إنما من خلال الفن".
اقرأ أيضاً: إياد صبّاح.. منحوتات الحصار