يجوز القول من دون مبالغة، إنّ شبكة الإنترنت مثّلت منذ ظهورها أعجوبة تذكّرنا بمصباح علاء الدين، ومنارة يضيء شعلتها العفريتُ "غوغل" قائلاً: "شبيك لبيك". وبتلك المنارة نهتدي مبحرين في فضاء يتّسع باستمرار بعد أن غزته النصوص والبدائع والفظائع بألسنة وثقافات متعدّدة. وبفضلها خرجنا من حقبة الانتظار الطويل والبحث المضني بين طيّات الورق ورفوف المكتبات إلى مرحلة النقر السريع على إيقاع "كن فيكون".
في عصر الإنترنت، أصبح للكتابة أبعاداً جديدة وأدوات غير تقليديّة، فقد انتهى زمن الأقلام والقراطيس والمراجع الثقيلة. وحلّت محلّها لوحة المفاتيح، وفأرة مطيعة تحملنا إلى عوالم لا متناهية من المعرفة والإبداع.
كانت دورة الكتابة والنشر تستغرق حولين كاملين، وفي أحيان كثيرة تتجاوز ثلاثين شهراً، مدّة الحمل والفصال. فاختصرت بفضل "النت" إلى أيام وساعات، وإذا تعلّق المكتوب بتغريدة فهي لحظات للكتابة ومثلها للقراءة.
"أنا أغرّد، إذاً أنا موجود"، الكوجيتو الجديد الذي يردّده الملايين قولاً وفعلاً في عصر التغريد، والتدوينة الومضة، والنصّ الإلكترونيّ، الذي يصل إلى المتلقّي فور كتابته. مرحباً بكم في عصر النصّ الجديد. فالناس يدخلون في شِرعة النتِ أفواجاً. ولكلّ شرعته ومنهاجه.
نظّمت "مؤسّسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر" في القاهرة ثلاثة ملتقيات خصّصتها للطواف حول النصّ الجديد تنظيراً واحتفاءً. كان أوّلها سنة 2010، وقد توّجته ببيان يعلن عن ولادة ذلك النصّ بوصفه "نصاً عابراً للأنواع والفنون، مستوعباً إياها حيناً ومتجاوزاً لها أحياناً، فهو نص عصيّ على التصنيف، يتبلور بعيداً عن المجانية والتهديف معاً، ولأنَّ الآلة أصبحت شريكاً فاعلاً في كتابة النصوص وليس مجرد وسيلة أو وسيط فقد أصبح الوعي بالنص الإلكتروني حقيقة واقعة تجعل منه نصاً تفاعلياً، بمعنى أنه نصّ مزدوج الكتابة والتلقي".
وإتماماً لهذا الجهد ومساهمة في إثرائه، أضيفُ أنّ الاعتراف بنشأة النصّ الجديد لا يعفيه من الاختبار والفحص والاحتكام إلى شروط العمليّة الإبداعيّة ومعاييرها وعلى رأسها "الإغراب والتعجيب"، كما ذكر حازم القرطاجنّي قبل مئات السنين في "منهاج البلغاء وسراج الأدباء"، مبيّناً أنّ التعجيب "يكون باستبداع لطائف الكلام التي يقلّ التهدّي إلى مثلها".
والطريف أنّ مصطلح "التعجيب" يحيلنا إلى مواقع التواصل الاجتماعي، وقد حوّلته التكنولوجيا الرقميّة إلى تطبيق تفاعليّ بين الباث والمتلقّي مع تبادل الأدوار في الاتجاهين، بفضل مدخلات ووسائط تساعد على التعليق والمشاركة في النشر، أو مجرّد الاطلاع على ما ينشر بغاية التأثير أو الإثارة.
اخترع الفيسبوك من فكرة "التعجيب" وصلة للنقر عليها، وعدّاداً يحصي أسماء المعجبين، وتعاليقهم ونقرات "أعجبني"، ولكنّ ذلك التفاعل بين الباثّ والمتلقّي، ينحرف في أحيان كثيرة إلى ظاهرة سلبيّة تتعلّق بما يسمّى في لغة الإعلام البديل"buzz" ، والكلمة حديثة دخلت المعاجم الفرنسيّة سنة 2010، ويترجمها محرّك البحث "غوغل" إلى العربيّة بمقترحات منها الطنين والإشاعة والدويّ، ويضيف إليها تعريباً طريفاً يتعلّق بالمدمنين على الموبقات فهي "الشرب حتّى الثمالة".
وتنطبق تلك الترجمة على كلّ من يعاقر "فيسبوك"، ويدمن على تصيّد "لايكات" المعجبين بمنشورات مستفزّة، تقوم على كلّ أصناف المغالطات والأكاذيب والمسّ بأعراض الناس، والاعتداء على المقدّسات. والأمثلة كثيرة أخطرها ما وقع بسبب منشورات صحيفة "شارلي إيبدو".. وبتلك الأبعاد، تدلّ عبارة الـ "buzz"على أخطر فيروس يهدّد العمليّة الإبداعيّة، وينحرف بوظيفتها إلى ما يشبه الإثارة والإسفاف.
وقد ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي في صناعة هذا الداء، بقصد أو بغيره، بعد أن أصبحت وسيلة حيويّة لنشر الأخبار والمواقف والصور ومقاطع الفيديو في فضاء افتراضيّ، يغذّيه إقبال ملايين الناس على التفاعل ومتابعة ردود الأفعال، حتّى أصبحنا نشاهد في منابر التلفزيون الصحافيون وضيوفهم متأبطّين شرّ الحواسيب اللوحيّة، والهواتف الذكيّة، فلا يكفّون عن لمزها وهمزها، وتلمّس شاشاتها لمراجعة ما يصل إليهم من الملاحظات والتعاليق ونقرات الإعجاب. وبسبب الرغبة المتصاعدة في استمالة المتابعين والمعجبين، لم تخل هذه الظاهرة التفاعليّة من مزالق وانحرافات.
ومع ذلك، يدرك عدد في ازدياد من الباحثين والكتّاب والمبدعين أنّ الفيسبوك شرّ لا بد منه. ودخوله لا يمثّل خطيئةً أو فضيلةً، بل نافذة تطلّ على فضاء فسيح تكون فيه حرّاً وأسيراً، سائلاً ومجيباً، فاعلاً ومفعولاً. والكلّ يكتب نصّاً جديداً، ويستمرّ في معاقرة النصوص بحثاً عن لذّة أخرى تدوم ما دامت الكتابة.