يُقال إنَّ التشيليِّين متخمون بالشعر؛ فذلك البلد القابع في جنوب القارّة الأميركية، منح العالم وآدابه مجموعة من أبرز شعرائه، وإن كانت الأسماء المجهولة أكثر من تلك المعروفة كبابلو نيرودا ونيكانور بارّا، والتشيلي من أصل فلسطيني محفوظ مصيص.
ومن الأسماء الكبيرة في قائمةٍ طويلةٍ من الشعراء، يطلُّ الشاعر راؤول سوريتا الذي يبدو اليوم أبرز شاعر في بلده.
في مقابلةٍ أجرتها معه صحيفة الباييس الإسبانيّة مؤخراً، قال سوريتا إن القصيدة الجديدة التي سيكتبُها ستكون كقصائده السابقة مواجهةً ذات الصعوبات والقلق، والفرح (إن كُتِبَ له أن يعيشه).
وعن أثر الديكتاتوريَّة التي حكمت تشيلي أعواماً طويلة، قال إنَّها تركت أثراً كبيراً، حتَّى جعلت لغة بابلو نيرودا ونيكانور بارا غير نافعتين، أمام ما حلَّ بالبلاد من دمار حيث أجاد العكسر التلاعب بالكلمات.
يؤكِّد سوريتا أنَّ القصيدةَ لا يُمكنها أن تنافس ماركة نايك، لكنَّها النور الذي يُعيد المعاني.. "استمع لـ "سيارة الغاز": حرارة إنسانية وحرارة طبيعية، ولا يوجد في اللغة كلمة تقول ما تقوله هذه السيارة. نحن نعيش عذاب اللغة، أنت تقول شجرة، وهم يقولون عنها "سيلولوسا" أو لا أعلم. يُقال إن الشباب يتحدَّثون كل مرَّة بكلمات أقل. هذا غباء، إذ لا تحتاج "أنا أحبك"، سوى لكلمتين. يكمن الخطر في فرض اللغة من ناحية رأس المال. فتوحيد اللغة لأسباب ربحية يعني الخسارة".
وفي حين رأى البعض إنَّه كان يطمح بمشروعه كتابة قصيدةٍ في السماء للوصول إلى أكبر عددٍ من الناس، قال سوريتا: "إنَّه من السذاجة الاعتقاد بذلك. بالنسبة لي، إنه نفس شكل التعبير، القصيدة في السماء هي بنفس قوة أكثر السوناتات كلاسيكية، مع أشياء أخرى عاشت داخلي لسنوات. لقد تخيَّلتُ هذه القصيدة في ظروف مروَّعة: كالديكتاتورية والفقر. تخيَّلتُها مكتوبة في السماء. كانت طريقتي لتجنُّبِ الغرق".
وعن قصَّة الندبة على خدِّه الأيسر التي تصدَّرت صورتُها غلاف كتابه "العذاب"، وخصوصاً أنَّه حاول أن يحرق وجهه وأن يعمي عينيْه بالأمونيا، لولا أنَّه أغلقهما في ذات لحظة إلقاء الحمض، الأمر الذي اعتبره تخريفاً في ما بعد.
وعن أصل الحكاية يقول إنَّه في عام 1975، اعتقل لفترة قصيرة لكنَّها مُهينةٌ جدّاً. لذا تذكَّر عبارة المسيح: "إذا ضربك أحدهم على خدِّك الأيمن فأدر له خدَّك الأيسر"، وقد كان حينها في حالة مزرية على المستويين النفسي والاقتصادي.
من ناحية أخرى، بدا له أنه من الحماقة الانتحار وهم يقتلون الناس. كما أنَّهُ لم يكن يعرف تماماً ما عليه فعله. يقول "كان عملاً منفرداً، لكنني أدركت منذ تلك اللحظة، أن شيئاً ما قد غادرني. رجلٌ وحيدٌ تماماً يحرق وجهه، عليه في النهاية على الأقل أن يلمحَ السعادة" تلك السعادة التي يقول إنَّها تحقَّقت بعد حين؛ إذ ما زال متفاجئاً من بقائه على قيد الحياة كل هذه السنين، وبعد كل هذا التدمير النفسي. يقول "الحديث عن السعادة مبالغ فيه، لكن ككائن حي وكشاعر لديَّ شيءٌ من السلام، هذا إن كان بالإمكان البقاء في سلام مع ما يحدث الآن".
يشدِّد سوريتا على الهدف المتطرِّفٌ للفن، الذي يحمله على تلمُّس المناطق المعتمة، "أحدهم قال إن من لا يستطيع أن يكتب سوناتا لا يُعتبر شاعراً. المشكلة ليست في عدم كتابة سوناتا، بل المشكلة أن يكون لديك القدرة على قتل إنسان. إن لم يكن باستطاعتك قتل إنسان فلستَ فنّاناً، لكن لو فعلتها، فأنت مثير للاشمئزاز، أنت بالضبط تقف على هذه الحافة".
وعن الشعر في ظلِّ الديمقراطية التي تسم الحياة السياسية في تشيلي حاليّاً، يقول: "الشعر يحتاج لشيء من الراديكالية والشغف الذي طالما وُجد، فلن يجعلك تتطابق مع نفسك. لا أدري إن كان جيداً أو سيِّئاً أو دون المتوسط ما أفعله، لكنَّني لا أستطيع أن أحمل نفسي على فعل ما يُنتظر من رجل ذي 65 عاماً أن يفعله: أن يرتدي نعاله. أنا مصاب بالشلل الرعاشي، وأعمل في حياتي دون شفقة بنفسي، أحاول الوصول إلى عمق ذاتي. وإن حدثَ ذلك، فمن الممكن أيضاً أن أصل لأعماق أي إنسان".
قصيدة "نشيد حبّه المفقود" لـ سوريتا