منذ بداياته لم يرغب جميل شفيق الذي رحل عن عالمنا مساء أول من أمس عن 88 عاماً أن تصل لوحاته إلى غاليريهات عالمية مغلقة ولا مزادات مرتفعة الأسعار؛ بقدر ما كان يرغب في أن تسافر لوحاته داخل "مجلة التعاون الفلاحي" في الستينيات التي كانت توزع داخل كل محافظات مصر.
انحياز للناس وأيضاً للمدرسة المكسيكية التي كانت ترى الفن مكانه جدران الشوارع. ربما كان من الواجب أن نسأل جميل شفيق قبل رحيله عن تجريم الدولة المصرية لرسم الجداريات والغرافيتي على الشوارع.
كانت الصحافة مدخلاً شعبياً لجميل شفيق، لم يتنازل عنه حتى بعد اشتهاره وسط حرافيش نجيب محفوظ المقرّبين، فكان ينشر رسوماته بشكل دوري في مجلة "المجلة" وكانت لوحاته غالباً بالأبيض والأسود، وهي ثيمة لم يتخل عنها، ربما لأن الأبيض والأسود حمل وحشة مستمدة من الواقع لم ير أنها انقشعت عن هذا الواقع طوال حياته.
النظر إلى لوحات شفيق يحيل بشكل دائم إلى رموز لها دلالات في الثقافة الشعبية المصرية، فالسمكة الشهيرة في أغلب لوحاته لها دلالات في الحضارة المصرية القديمة وفي الحضارة القبطية والنوبية وترمز إلى زيادة الخير أو افتقاده، فضلاً عن رمزية الخيل التي تحيل إلى الفتوحات والبطولة، والمفارقة أن الخيل كان آخر ما رسمه جميل شفيق على جدار أحد المقاهي في قرية البرلس قبل رحيله بأشهر.
رغم تلك الرموز والتي من السهل تتبع دلالاتها، إلا أن شفيق يلبسها أردية أسطورية مشبعة بالرومانسية والحزن، فوجوه من يرسمهم يشيع فيها التعبير الارتيابي القلق، وسط مناظر ليلية موحشة كأننا أمام عمل لفرانشيسكو غويا، خاصة وجوه النساء التي تظهر من دون جسد أحياناً، وجوه تطفو على سطح الأرض أو فوق بركة ماء كالندّاهة المعروفة في الريف المصري.
هذا إلى جانب المجرات والسطوح التي تظهر في بعض لوحاته، والقطط والقلق الكابوسي الذي يذكرنا بأجواء الخرافة التي انتشرت فنياً في القرن التاسع عشر في أوروبا، وكانت على صلة بالموروث الشعبي والظلامية الغامضة والقلق الكابوسي، وهو ما يحيلنا إلى حجم تأثر ابن محافظة طنطا بغويا أو ربما الرغبة في التجريب جعلته يبحر في نفس الاتجاه.
وبمناسبة التجريب فإننا أمام تجربة فنية تعاملت مع نفسها بعفوية دون ملاحقة أو استفزاز، فصاحبها كان يعطي لنفسه المساحة لأن يطلق صوتا أو حالة أو فكرة أخذت حيزها في الاختمار حتى ولو كانت غريبة، فمعرضه النحتيّ "طرح البحر" يشير إلى ذلك بقوة، وهو الذي جلس أمام البحر لأربع سنوات يجمع الأخشاب التي يلقيها البحر ليخرج بمعرض عام 2008 وكان وقتها قد تخطي الستين من العمر، ليحول الأخشاب تلك إلى أسماك وقطط وحيوانات وبشر، مع الاحتفاظ بآثار نخر السوس في تلك المنحوتات.
أقام جميل شفيق أول معرض له عام 1989 افتتحه صديقه نجيب محفوظ. وكان شفيق قد سكن "شقة العجوزة" التي تقاسمها مع نبيل تاج ومحيي الدين اللبّاد، والتي أصبحت بعد ذلك ملتقى لفنانين وكتاب مثل يحيى الطاهر عبد الله وعبد الرحمن الأبنودي وآدم حنين.