متجاوزاً التسعين بقليل، رحل أمس المؤرخ الفرنسي آلان ديكو (1925 - 2016). لعله أشهر المؤرخين في بلاده، ليس بسبب كثرة أعماله (رغم أنها تناهز الخمسين) ولا بسبب قراءات لافتة أو اكتشافات مهمة، ولكن بالأساس بفضل شعبيته التي صنعتها وسائل الإعلام والسياسة، وقبل كل شيء مواهبه في "إخراج" التاريخ مبسّطاً ورائقاً.
في سن مبكّرة، انطلقت مسيرة ديكو، حين نشر كتاب "العثور على لويس السابع عشر"، سنة 1947، وهو في عمر 22 عاماً، أي قبل أن يتم دراسته الجامعية في الحقوق والتي سيهجرها لاحقاً على غير رغبة والده المحامي، في سبيل حضور دروس التاريخ في السوربون. في هذه السن المبكرة، اختار ديكو أن يرسم سيرة ملك فرنسي حكم وهو دون سن العاشرة، وحاول من خلالها أن يقف على حميميّات الحياة الملكية في زمن انهيارها بعد الثورة الفرنسية.
جعل ديكو من المؤرخ تيودور غوسلين لونوتر (1855 - 1935) والروائي ألكسندر دوما (1802 - 1870) نموذجيه في مسيرته، فالأول هو مخترع فكرة "التاريخ الصغير" الذي يعتمد على السير وتفاصيلها في رسم المشهد العام، والثاني بث الكثير من التخييل ضمن السياقات التاريخية المعروفة، وسيخصص لهذا الروائي كتاباً بيوغرافياً بعنوان "دوما الجميل".
توالت منشورات ديكو، موزّعة على محطات كثيرة من تاريخ فرنسا، أعمال مثل "نابليون ووالدته" (1949) و"الحكاية الجميلة لفرساي" (1954) و"الإمبراطورية والحب والمال" (1958) وصولاً إلى وضعه "معجم تاريخ فرنسا" في 1981.
ولعل هذه المحطة تتويج للمسارات التاريخية المتعدّدة التي اتخذها، ومعها سيبدأ في تنويع طرق سرده للتاريخ، إذ سينشر في 1987 كتاب "ديكو يروي تاريخ فرنسا للأطفال" وفي السنة التي تليها سينشر "ديكو يروي تاريخ الثورة الفرنسية للأطفال"، وهو كتاب عرف طبعات كثيرة. وفي التسعينيات، سيأخذ المشروع في اتجاه آخر، حين نشر "ديكو يروي الإنجيل للأطفال". وفي 1999، نشر كتاباً ضخماً جديداً بعنوان "كان ذلك هو القرن العشرين" في أربعة ملجدات.
بموازاة الكتابة، كان ديكو يقدّم التاريخ في وسائل الإعلام، بدأ ذلك مبكراً أيضاً حين اقترح برنامج "محكمة التاريخ" في 1951 مع رفيق دربه الصحافي أندريه كاستيلو (1911 - 2004)، قبل أن يقدّم بداية من 1956 أحد أكثر برامج التاريخ شعبية، "ألغاز التاريخ"، وهو برنامج سيتطوّر إلى برنامج بإمكانيات أكبر وفرها التلفزيون الرسمي الفرنسي هو "الكاميرا تكتشف الزمن".
صنعت هذه البرامج شعبية كبيرة لديكو، سيدعمها ببرنامج سيمتد معه من 1969 إلى 1981، وهو "ديكور يروي" حيث ستظهر مواهب الحكاية وخصوصاً إظهار التاريخ بتفاصيل محبّبة فيه، فكان المؤرخ الفرنسي يعتمد على روح فكاهية عالية ويرتدي أزياء المراحل التي يتحدث عنها، متعاوناً في ذلك مع المسرحي الفرنسي روبار أوساين، وهو تعاون امتد إلى الخشبة، فقدّما الكثير من الأعمال التاريخية في مسرحيات.
شعبية ديكو لم تكن صناعته بمفرده؛ إذ إن مسيرته تكشف عن تسخير إمكانيات كبرى لمشاريعه. لعله كان يقول الرواية التي تحبّذها الدولة، أو ترى فيها الوسيلة الأنجع في إيصال تصوّراتها عن تاريخ فرنسا إلى أبعد ما يمكن. لقد أوصلته هذه الشعبية إلى عالم السياسة، ففي 1988 عُيّن وزيراً مكلفاً بالفرنكفونية في حكومة ميشال روكار؛ موقع يدل بوضوح على إرادة استثمار الدولة الفرنسية لمواهب ديكو في رواية التاريخ.
اقرأ أيضاً: نابليون وأسطورة التنوير: عن أية صدمة نتحدث؟