لم يراود الكاتب الفرنسي من أصل روسي، هنري ترويا (1911 - 2007)، حنين العودة إلى مسقط رأسه، ولو على سبيل السياحة. كان يرفض تماماً فكرة العودة إلى بلد انتهى بالنسبة إليه، منذ أن غادره مطلع عشرينيات القرن الماضي. ومع ذلك، ظلّ حاضراً في كتاباته، سواء الأدبية منها، أو تلك التي خصّصها لسير شخصيات ثقافية وتاريخية.
بالنسبة إلى الكاتب الذي برز في الأوساط الأدبية الفرنسية في منتصف الثلاثينيات، تحضر روسيا في صورتين متناقضتين؛ إحداهما حقيقية، والثانية تمثّل ما تبقّى من رواسب علقت من طفولته.
يقول واصفاً شعوره ذاك: "أعيش ما يشبه الصدام بين روسيا التي في داخلي، وروسيا الحقيقية، حيث تنهار خيالات الطفولة، وتحلّ محلّها انطباعات سائح مثيرة بلا شك. أفضّل البقاء داخل ذكريات الطفل الذي كنتُه، وأنا في الثامنة من عمري، بدلاً من فقداني ذاك الحلم".
في الثاني من آذار/ مارس الماضي، حلّت ذكرى رحيل ترويا التاسعة، هو الذي ترك قرابة مائة كتاب، بين الرواية والقصة القصيرة والمسرحية، إضافةً إلى سير الكتّاب الكلاسيكيين والرموز التاريخية المرتبطة بروسيا القيصرية.
وقد شكّلت الرواية حصّة الأسد من مجمل أعماله التي تميّزت معالجتها بنمط خاصّ في الكتابة، يستند أساساً إلى السرد البسيط، خارج ما نظّرت له الموجة الروائية الفرنسية الجديدة، متأثّراً في ذلك، على ما يبدو، بالكتّاب الكلاسيكيين الروس، ومرتكزاً على ثيمات تستمدّ جوهر أفكارها من تاريخ أوروبا عموماً، وروسيا على وجه التحديد، ما جعل منه أحد أكثر الكتّاب الفرنسيين قراءةً، في وقته، كما انتُخب عضواً في "الأكاديمية الفرنسية" عام 1959.
استلهم ترويا معظم مواضيع أعماله من عمق تاريخ روسيا، لاسيما الفترة التي سبقت الثورة البلشفية (1917)، إذ ليس غريباً أن يتناول تاريخ بلد وُلد وترعرع فيه، حتى وإن غادره بعد اندلاع ثورة أكتوبر.
وُلد ترويا، واسمه الحقيقي ليف أرسينوفيتش تاراسوف، في موسكو، في عائلة ميسورة، ستلجأ عام 1920 إلى فرنسا هرباً الحكم الشيوعي. هناك، درس الحقوق، وبرز اسمه في الوسط الأدبي والإعلامي مع إصداره أوّل رواياته "نهار مزيّف" عام 1935.
ثلاث سنوات بعد ذلك، أي في 1938، حازت روايته "العنكبوت" جائزة "غونكور"، وكان حينها في السابعة والعشرين من عمره. تدور أحداث العمل حول رجل أصرّ على الانتحار، عبر أكثر من محاولة، لسبب يبدو غريباً، يتمثّل في رفض زواج شقيقاته، رغبةً منه في إبقائهن إلى جانبه في بيت العائلة.
أمّا كيف تحوّل إلى كاتب، فيجيب في أحد حواراته: "بدأتُ الكتابة عندما كنت في الثانية عشرة من عمري. كانت لديّ دائماً رغبة في سرد الحكايات، وعندما كنت مراهقاً، انصرفتُ إلى نظم الشعر الذي اعتقدت أنه الوسيلة الوحيدة للإفصاح عن الأحاسيس العميقة".
يضيف: "لكن، سرعان ما انسحبتُ عن عالم الشعر، لحسن الحظ، ذلك أنني كنت أكتب أبياتاً رهيبة، كزمّارة من قصب، من ثمّ ذهبت إلى السرد. بالنسبة إليّ، أن أكتب، معناه أن أحقّق حاجةً في نفسي تكاد تكون بيولوجية".
استمر ترويا بفلسفته في الكتابة إلى آخر رمق: أن يقرأ كثيراً، وأن يقلّد غيره بأقل ما يمكن: "في شبابي، كنت أرغم نفسي، مثلاً، على قراءة صفحة من كتاب لـ فلوبير، ثم بعد ذلك أحاول حفظها في ذاكرتي، ثم أقوم بعملية مقارنة، لأحاول أن أفهم، كيف يُعقل أن ما أراه مبتذَلاً عندي، هو بالعكس كان رائعاً لديه".
عُرف بصرامته في الكتابة، حيث كان يكتب بانتظام، بمعدّل عملين اثنين في السنة، لأزيد من نصف قرن، لدرجة أُطلق عليه وصف "ماكينة نشر". لم يتوقّف عن الكتابة، ففي تشرين الثاني/ نوفمبر 2006، وهو يحتفل بعيد ميلاده الخامس والتسعين، فاجأ الجميع بكتاب انتهى من تأليفه، وهو بيوغرافيا، خصّصها لـ بوريس باسترناك. ولعلّه نسق في الكتابة، تحوّل، بتراكم الخبرة، إلى آلية إنتاج.
كما عُرف بطقوسه الخاصّة في الكتابة؛ إذ كان يكتب واقفاً أمام مكتبه الصغير الشبيه بمقاعد التلاميذ، قبل أن يتخلّى عن هذه العادة بسبب تقدّمه في السن.
إضافةً إلى أعماله السردية العديدة، عُرف باهتمامه الشديد بكتابة السيَر، حيث ألّف سير مجموعة من الشخصيات التي تركت أثراً في حياته الإنسانية والفكرية. في البداية، تناول سير شخصيات روسية تاريخية؛ مثل: كاترين الكبرى وألكسندر الأول، لينتقل بعدها إلى كتّاب المدرسة الروسية الكلاسيكية؛ مثل دوستويفسكي وبوشكين وباسترناك وتولستوي، وتشيخوف كاتبه المفضّل، والذي يعتبره "الأكثر تواضعا وسخريةً وانطواءً".
لم يقتصر اهتمامه على الكتّاب الروس، بل امتدّ ليشمل كتّاب القرن التاسع عشر من الفرنسيين، أمثال فلوبير وموباسان وزولا وبودلير وبلزاك. من خلال تلك المؤلفات، سبر ترويا أغوار تلك الشخصيات، وقرأ أفكارها، وتفاصيل حياتها، وعلاقاتها الإنسانية.
كتب ترويا ثلاثيات عدّة؛ من بينها: "ورثة المستقبل"، و"ابن موسكو"، وخماسيتين؛ هما: "الزرع والحصاد" (1953) وتتضمّن: "الزرع والحصاد" و"إيميلي" و"طائر السمنة" و"إليزابيت العنيفة والحنونة"، و"اللقاء"، و"نور العادلين" التي تتضمّن "رفاق شقائق النعمان" و"النبيلة الروسية" و"مجد المهزومين" و"سيّدات سيبيريا" و"صوفيا".
في هذه الخماسية، أضاء ترويا على مرحلة معقّدة من التاريخ الأوروبي، مازجاً بين التاريخ والأدب في قراءة تفاصيل الصراع الدموي بين الملكية والجمهورية في عدد من بلدان أوروبا، وتوثيق حركاتها الثورية التي تبنّت قيم الثورة الفرنسية.
من كتبه الأخرى: "طالما أن الأرض مستمرة" (1947)، و"حداد الثلج" (1952)، ومذكّراته التي صدرت عام 1976 بعنوان "درب طويل".
لم يكتُب ترويا سوى باللغة الفرنسية، فقد امتنع عن الكتابة بالروسية، كموقف ينطلق من رغبته في القطيعة مع بلده الذي يقول عنه: "ذكريات الطفولة، حكايات آبائي، وقراءاتي، هي التي صنعت أعمالي عن روسيا، وصنعت منها حلماً. لكنه حلم زائف بلا ريب. روسيا التي أعرف جميع أزقّتها، وحيث أتجوّل براحتي، لكنني أخاف الذهاب إليها".
من هنا، تكرّست لديه صفة العزلة في يومياته، فاختار أن يكون بعيداً عن الناس ووسائل الإعلام. في إجابة له عن سؤال عمّا تعنيه العزلة بالنسبة إليه، يقول ترويا: "هي عزلة أحبّها أكثر فأكثر. في حياتي اليومية، للأسف، أعيش الوحدة، الكتابة تسمح لي بالانشغال بأشياء أخرى، بعيداً عن همومي الشخصية. أنا أهرب".
يقول: "في عمق كلّ كاتب، وخاصّة كل روائي يسكن طفلا ينشط، طفل في حاجة إلى من يحكي له قصصاً، ويحكيها بدوره للآخرين. أعتقد أنه ليكون المرءُ كاتباً، يجب أن يمتلك مقداراً من السذاجة، ذلك أنه من المناسب جدّاً تصديق شخوص روايته".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عاد بعد سنتَين
رغم أنه يشكّل ظاهرةً متكاملةً في تاريخ الثقافة الفرنسية في القرن العشرين، إلاّ أن هنري ترويا ارتبط أكثر بالموضوعات المستلهمة من بلده الأم؛ حتّى أنه لُقّب بـ "أكثر الأدباء الفرنسيين روسيةً". لم يعُد ترويا إلى مسقط رأسه منذ أن غادره طفلاً، لكنه عاد إليه، بشكل رمزي، بعد سنتَين من رحيله؛ حين أهدت ابنتُه روسيا أرشيفَه الشخصي سنة 2009، والذي يتضمّن وثائق روسية أصلية ومخطوطات لم يسبق نشرها.