من الصعب ألا تعترض متابِع الكتابات الفكرية في العالم العربي هذه العبارة "مشروع مطاع صفدي للينابيع" على أغلفة أعمال فلسفية مرجعية مثل "نقد العقل المحض" لإيمانويل كانط، أو "الكلمات والأشياء" لميشيل فوكو.
من خلال هذه الملاحظة، لعلنا نلمس البعد الأهم في مسيرة المفكر السوري مطاع صفدي (1929 – 2016)، الذي رحل عن عالمنا أول أمس، وهو إدارة مشاريع حول الفلسفة يوازي ما أنتجه من كتب حملت توقيعه.
هكذا، وخلافاً لعاداتنا في حصر حضور مفكّر في مؤلفاته، فإننا مع صفدي مجبرون على أن نتوسّع أكثر، متّجهين صوب مشروعين أشرف على إدارتهما سنوات طويلة، هما "مركز الإنماء القومي"، ومجلة "الفكر العربي المعاصر".
في كلا التجربتين حاول صفدي أن يجعل من الفلسفة في العالم العربي فعلاً جماعياً، مُخرجاً إياها من صورتها (وربما حقيقتها) كمجموعة مساهمات فردية متفرّقة، ليستوعب جزءاً كبيراً من الجدل الفكري العربي، واشتباكاته مع إشكاليات الحاضر، ويقدّم في الأثناء إطاراً لتوثيق التراكم الفلسفي في المنطقة، سواء من خلال التأليف أو الترجمة. هكذا، يمكن اعتبار صفدي مساهماً في جعل الحياة الفكرية العربية شبكة (بالمعنى الاتصالي)، ليبقى السؤال المعلّق: هل نجح؟
تتوزّع مشاغل صاحب كتاب "نقد الشر المحض" إلى ما هو أبعد من الفلسفة، فمساهمته الفكرية بدأت ضمن التطلعات العامة لجيله، ولعل الهم السياسي الأول هو الذي اتجه به صوب الفلسفة والتعمّق فيها، بعد أن جرّب الكتابة السياسية، كما في "مصير الأيديولوجيات الثورية" و"حزب البعث مأساة المولد مأساة النهاية" و"الناصرية والنظرية الثالثة"، وجرّب أيضاً المقاربة الفنية من خلال الكتابة الرواية في أعمال "جيل القدر" و"ثائر محترف" أو المسرحية في "الآكلون لحومهم".
من هذه النقطة وصولاً إلى أعماله الرئيسية مثل "نقد العقل الغربي" و"استراتيجية التسمية" و"نظرية القطيعة الكارثية"، اختلط صفدي بتيارات شتى، مثل الوجودية والقومية، وصولاً إلى تبنّي مقولات ما بعد الحداثة كونها تؤمّن نقداً معرفياً تحتاجه الحضارة العربية اليوم لتفكيك هيمنة الغرب.
هذه الرحلة، وضعت صفدي أمام مهمة تعديل ساعة الفكر العربي على آخر ما وصله الفكر في العالم، أو كما يقول في مقدّمة "استراتيجية التسمية"، المعرفة في الساعة الخامسة والعشرين. اقتضى ذلك مصاحبة نقد الغرب لنفسه، ومن ثم تطويع نتائج ذلك النقد في البحث عن مخارج لمآزق الذات العربية.
كتاب "نقد العقل الغربي.. الحداثة ما بعد الحداثة"، هو أكثر عمل تصدى لهذه المهمة، فهو محاولة، كما يقول في مقدّمته، لـ"قراءة العقل الغربي كما قرأ هو ذاته وكما عرف هو خصائصه، واعترف بشطحاته وسقطاته"، طارحاً سؤال: "هل كنّا نعرف العقل الغربي حقاً نحن العرب؟"، معتبراً أننا فقط اختلطنا به من دون أن نعرف "سرّ قوّته الحقيقية ولا أن نقرب من نار بروميثوس تلك التي أمدّته بخلود الفينيق بعد كل مصارعه". غير أنه سرعان ما يقول بأن "النار لا يمكن احتباسها طويلاً" وأن المشروع الغربي لم يعد ملك نفسه.
يصل المفكر السوري إلى أنه "لا يمكن اختلاق معارضة من خارج العقل الغربي، إن لم تكن ذاتاً معاصرة وجوانية من داخل خطاباته نفسها". لكن ذلك يأتي بالتوازي مع القول بإمكانية أن تُكتب قصة هذا العقل "بغير حروفيته الأصلية"، وهو ما أقدم عليه، من أجل تحويل وجهته من طلب الهيمنة على الآخر إلى تقديم آفاق للبشرية.
نعثر في كتاب "استراتيجية التسمية" على بعد آخر من مشروع صفدي، حين يحاول التأسيس لأدوات فلسفية ضمن المساحة الفكرية العربية، على رأسها التأويلية كما بلورها الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر، مع انفتاح على ميادين علم الاجتماع وتحليل الخطاب، ليعيد طرح سؤال فشل النهضة العربية في العصر الحديث، والذي ذهب إلى تحويله لمسألة لغوية (باعتبار أن الفلسفة اليوم تتطوّر ضمن براديغم اللغة)، معتبراً أن مآزق البلاد العربية اليوم هي نتاج النصوص الجاهزة التي كبّلت فعل اللغة (أو ما يمكن أن تفعله)، ليخلص بأن الصراع التاريخي الحقيقي هو بين الانتماء إلى النصوص والانتماء إلى اللغة، ومثاله تغلّب التديّن على الدين، وهو وضع ينتج ما يسمّيه بـ"البروليتاريا الغيبية"، مقابل إنتاج الغرب لـ"البروليتاريا التقنية".
موقع النظر هذا الذي اتخذه صفدي أدى به إلى وضع إصبع الفلسفة على "داء الأمة"، فتعطُّل التأويل أمام النصوص وعدم تحويلها إلى لغة، جعل الميراث السلبي العقيم يتحكّم في قانون النهضة، ويجعل منها سهلة الاغتيال في كل مرة.
يمكن القول بأن كتابة صفدي كانت من أكثر المساهمات راهنية في الفكر العربي في القرن العشرين. المفارقة أن هذه الخصلة هي سبب الانتقاد الذي طالما طارده، ووضعه في عزلة، كون كتاباته كثيرة التعقيد وبعيدة المنال على القارئ غير المتخصّص. لعلها عزلة كل شيء يروم أن يكون راهناً في الآن/هنا العربي، باعتباره مجبراً على الانفصال قليلاً عن المناخ الذي نتحرّك فيه جميعاً.
نهضة/ثورة: توأمة مجهضة
كانت "الثورة" أحد المفاهيم التي اشتغل عليها مطاع صفدي، وربط بينها وبين مشروع النهضة العربية المجهضة. تناولها طالما اعتبر حنيناً منه إلى منتصف القرن العشرين، غير أن ما قاله يمكن أن يُقرأ مع الانتفاضات والثورات في أيامنا. يرى صفدي أن النهضة هي الثورة التي لا تقف عند حدود رفض الواقع ولغاته القمعية ولكنها تقيم سلطة عقلانيتها بحيث تتهافت كل العقلانيات المزيّفة، هي الضوء الساطع الذي يفضح ويُسقط النظام.