بعد سبعين سنة من القول والكلام، ينام القوّال حينما يعجز عن القول، أو يعجز القول على أن يأتيه. الجسد راقد، والحجاز بلا مهرجان، ونجد خالية من الخيام والقصور والجواري والعبيد.
السرير هادئ تماماً، وأبو زيد تائه في الصحراء، والجازية عادت إلى أهلها، والديدبان ينقل الكلام من نجد إلى العراق إلى تونس، حيث الطائرات وحدها هي التي تلقي البراميل المتفجرة والقنابل على الآمنين، دون أن يُجرّدوا سيفاً من غمده ودون أن تزغرد لهم الصبايا من خيامهنّ، ودون أن يُنشد المغني على الرباب.
هكذا انتهى الحال بعم سيد الضوي، شيخ القوّالين وآخرهم تقريباً، و"سيد الكلام" كما يسمّيه البعض. تضيق المساحة على الكلام، وتكثر الكتب، وتدور المطابع مع القنابل والطائرات، تقل الحكمة على الأرض، وتضيق النفوس، ويكثر الورق، وتتّسع الحضارة حتى تشرب الحبر مع الأخبار والقتل، الذي يخلو من المعرفة والشجاعة بالطبع.
***
ينام عم سيد على ظهره، بلا رباب، ولا ديدبان ينقل له أخبار العذارى في الخيام والبادية.
لا صبي في العاشرة يتابع الفرح والموالد مع الأب، ولا الجد، حيث الرباب ينادي على الجائعين في قنا، فيتركون الأكل، لحشو المخيّلة بحكايات الفرسان والخيانة والكلام الملغز، الذي يُشبه الإبر لأصحاب الفطن والمروءة والقدرة على التأويل. تعب الرباب تماماً، وراح للخيام.
هل كان الأبنودي عبئاً على عم سيد الضوي أثناء سرده للسيرة، أم كان مفسّراً؟. أنا لا أحب القواميس، وخاصة في حضرة (القوالة) والكلام والغناء. القوالة كالغجر ورحيلهم، رحيل بلا منطق ولا مبرر ولا خطة، سوى مبرر الرحلة، ولذا أرى أن الأبنودي كان عبئاً ثقيلاً على لسان الرجل. ولم يفد عم سيد بشيء سوى في التسويق.
"تموت يا أبو زيد قليل الحبايب، وآه يا عيني على آه، يابا آه يا عيني على آه"
"يا جاز خادوكي مني
الله يجازي سلامة
لا عارف شمالي من يمني
لله نرجو السلامة"
***
هل كان الراقد الآن على سرير المرض يتصوّر أنه بعدما حفظ خمسة ملايين بيت شعر من السيرة، سيرقد هكذا على سرير في مستشفى عمومي، تاركاً فرسانه وسيوفه وربابته وخيامه ونجده وحجازه ومعاركه كلها، يخوضها يومياً سعد الصغير مع طليقته على الدربكة، بعد ما خاصمت الفضائيات الصعيد تماماً، واكتفت بسعد وصافيناز؟
"يا قمصان هات لي فرسنا". لا قمصان، ولا ديدبان على حنك الخيمة، حيث كل القبائل هاجرت، وشح الماء وقل الكلأ، وطائرات "العدا" غطت أصواتها على بعض زغاريد الصبايا في النجوع، التي لم تصل إليها بعد أهوال الحروب. نم يا عم سيد في مشفاك، فالحروب الآن يقودها الجبناء من أعالي السماء.
***
"أصل كل واحد وبخته". هكذا قالت الجاز (الجازية)، وأعرف أنك كنت تستملحها سراً، وتطلق وراء عطورها سبيب الرباب، وتكزّ على أنيابك شوقاً، وهي ترخي الدلال، حينما تنزل من هودجها: "حلوة تلاعب دراها".
يكذب من يقول إن "القوالة" من شطارة الفم وحفظ اللسان وحده، ولكن معينها من مروءة القلب. سحر الربابة، مع "قفلات" القوالة وحنكتها، تعطي للجملة مذاق الحكمة، ورقص الكلام على جمال المعاني، فكأن من يقول هو الذي يحارب، وكأن الربابة هي التي تنز "الدما" في المعارك.
"ناس عكاريت
تنصبوا الخيش،
وعندينا،
تعملوا أمارة ؟"
***
تعب آخر القوّالين، الذي لم يكن يجيد القراءة أو الكتابة، ومال عليه الحمل، وظهر الحزن واضحاً في عيون جمله:
"وآه يا عيني على آه.
جض الزناتي وقال: آه"
"يا صبية أرخي الدلال
بعزقي الحسن ويا الجمال
ولفّي شعرك 90 عكيفة
لها كرسي في المملكة
دهب مضبب بفاضي
ساعة ما تكون قاعدة البنيّة
لم يكون الكرسي فاضي"
كان عم الشيخ سيد متيّماً بالجاز، ولولا الخجل لعضّ على سبيب الرباب، ولكن كان للرجل وقار وأدب، فاحتمى قلبه من الفضيحة.
"عاوز من القمح ألفين
صيفة ما تقبل غربال".
إلا القمح يا عم سيد، وانت عارف الظروف، والكلام لمّا يمرر، صعب نقوله للحبايب مرتين.
وسمعنا يا رباب صلاة النبي العدنان:
"بعد المديح في المكمل
أحمد أبو درب سالك
لاحكي في سيرة وأكمل
عرب يذكروا قبل ذلك
سيرة عرب أقدمين
كانوا ناس يخشوا الملامة
رئيسهم بطل سبع ومتين
يسمى الهلالي سلامة".