وبالفعل، فقد ازدهرت حركة التعريب الإداري والمالي منذ عقود، وطاولت عشراتٍ من المعاملات الرسمية ووثائق العمل، في بلدان شمال أفريقيا وشرق المتوسط، بُعيد حقبة الاستعمار. وأما دول الخليج العربي، فقد شهدت مرحلة بناء نشطة لمؤسسات الاقتصاد ومرافقه، وكان من آثاره البَيِّنة نهوض غير مسبوق في تعاملات الوزارات والإدارات، وكذلك الشركات، المحلية منها والأجنبية.
ولحسن الحظ، التزمت كل هذه الأجهزة، باستخدام الفصحى مَرجعاً في تسيير المراسلات الإدارية وتدبير أشكال التواصل المِهني، على تنوع اختصاصاته. وكان من نتائج هذا الالتزام، تدشين حقولٍ معجمية جديدة واسعة، أبرزها تلك التي تنتظم منها مفردات المصارف والشركات والمقاولات، حيث تفننت هذه الفضاءات الإنتاجية في توظيف الضاد، ليس فقط ضمن الوثائق المكتوبة، وإنما في التواصل الشفوي، أكان ذلك في الاجتماعات الرسمية أم اللقاءات الودية أثناء استراحة الشاي وعصرونياته.
وما فتئت وسائل الإعلام العربية، المكتوبة والإلكترونية، بوصفها حالياً المحرّك الأقوى في نشر المفردات توارداً وتواتراً، أن خصصت زوايا قارّة وشبه يومية، تتناول خلالها ما دعته، في دلالٍ: "دنيا المال والأعمال"، كما باتت تخصص مساحات شاسعة لوصف الشركات وإنتاجها وهياكلها التنظيمية، ومفاتيح تدبيرها وحل أزماتها، فضلاً عن سلّم التراتبية المهنية، وتوزيع المهام بين الموظفين.
كما ازدهر، تبعاً لذلك، قطاع الاستشارة والنصيحة المهنية، في صورة مقالات تساعد الموظف على تحقيق التألق المهني، وقد غدا، في أيامنا، قيمة القيم الاجتماعية، بعد أن أزاح مبادئ ما قبل الرأسمالية، كالقناعة بالقليل، والزهد، نبذاً لزخرف الدنيا. وبات "الوقت" ثميناً، في نفاسة المال.
وبعد مرور سنواتٍ قليلة، تبلورت ملامح سجلٍ عربي خاص بالأعمال والمهن والأوساط الاحترافية، وباتت مفرداته تخترق المعيش اليومي في القطاعين الخاص والعام، على الرغم من استمرار المراوحة المعقدة، والتي يعسر التنظير الصارم لها، بين ثلاثية الفصحى/ الدارجة/ واللغات الأجنبية: إذ تستعمل الأولى في مجال المكتوب، تسجيلاً للمسائل الأكثر رسمية وفنيةً، في حين تخصص العامية للتواصل غير الرسمي، مثل تبادل التحية والمزاح وعاديّ المحاورات وصيغ المجاملة، وأحياناً لإصدار تعليمات ذات طابع شكلي خفيفٍ. وأما الألفاظ الأجنبية فتستخدم في حالة غياب مقابلٍ عربي شائع، أو بسببٍ من غموضه وعسره إن وجد، أو رغبةً في إظهار الانتماء إلى فئة اجتماعية عالية.
ولا بد من الإقرار برسوخ هذه التعددية اللغوية (Pluriglossie) ضمن دنيا الأشغال والأعمال، في أرجاء الوطن العربي، والتعايش بين ثلاثة ألسنة أو أكثر، وهو ما لا يجري فقط بين أعضاء شركة مختلفين، وإنما لدى المتكلم نفسه، وفي نفس خطابه: فقد ينتقل خلاله من الفصحى إلى الدارجة، مُدمجاً كلمات أجنبية طيَّها، لا سيما الإنكليزية أو الفرنسية.
وتجدر الإشارة إلى أن ظهور تكنولوجيا المعلومات ورقمنة القطاعات الاقتصادية وتطويع الحواسيب للغة العربية والتحرّر من قيودها الإملائية... كل ذلك يسَّر استخدام لغة الضاد في الأوساط المهنية، بعد أن كانت العبارة عنها، وإلى زمنٍ غير بعيد، حكراً على اللغات الأجنبية ومتقنيها. ومن جهة ثانية، لعب تبادل الكفاءات والخبرات المهنية وهجرتها، من بلد عربي إلى آخر (أطباء، أساتذة، مهندسون...) دوراً كبيراً في اعتماد الضاد، بدلاً من اللهجات المحكية. ويجدر التذكير هنا بإسهام المصريين في تعريب مناهج التعليم بالجزائر بعيد استقلالها سنة 1961، أو بتأثير كوادر المغرب العربي، والذين يفدون على دول الخليج حاملين ثقافاتهم الجهوية، ما سهّل التواصل بين شطري العالم العربي، وساهم في توحيد المصطلحات بينهما، ومزيد تداولها، حتى صار استعماله عفوياً وسائداً، خاصة في تحرير الإيميلات وتبادل المعلومات.
ولكن، لا تزال ثمة عوائق جدّية تحول دون استخدام متجانس لهذه السجلات الجديدة في الأوساط المهنية ومن أهمها على سبيل الذكر: عدم توحّد المصطلح في سائر البلدان العربية، وغياب "أكاديمية" واحدة موحدة، إذ تتباين العديد من المفردات، من قطرٍ لآخر، رغم انتماء جميعها إلى الفصحى، ويكفي تقديم مثل: Stage بالفرنسية، أو Training بالإنكليزية، والذي تُرجم بمقابلات شتى: تَربُّص، دورة، تدريب، دورة تدريبية، تكوين...
ومن العوائق أيضاً استمرار الازدواجية، وأحياناً التعددية اللغوية، واحتدامها داخل المؤسسات، لدى الكوادر وعامة المنتَدَبين، ومنهم من لا يتقن العربية الفصحى أصلاً، فيتعاملون إما بالدارجة أو باللغات الأجنبية. ومن بينها هجران المصطلح الفصيح، نظرا لغرابته، أو غموضه، أو حتى ثقل بنيته الصوتية، وتفضيل الدارجة عليه.
كما أن التعامل مع الشركات العالمية، متعددة الجنسيات، يفرض ضرورة استخدام الإنكليزية، وهو شكل من أشكال الخضوع لمركزية تعاني منها لغات الأرض قاطبة، وعلى العربية أن تشارك، مثل لغات أخرى، في إزاحة هذه السيطرة وفرض سجلاتها، تأصيلاً واستحداثاً.
وتذكر هنا أعمال كلود حجاج (1936) في إطلاقه صرخات إنذار من هيمنة الإنكليزية وتسبّبها في إلحاق الكثير من اللغات واللهجات بقائمة اللغات الميتة أو المنقرضة. ولئن كان هذا الألسني يكتب بالفرنسية، فهو من أصول تونسية، فلم لا يستفاد من جهوده النظرية في هذا السياق.
وتمثّل هذه العوائق نفسها تحدّيات أمام اللغويين والمترجمين والباحثين في المجالات المتاخمة، كالاقتصاد وعلوم الشغل (على قلة المهتمين بها عربياً). وقد يكون من المفيد تدشين تعاون معرفي بينهم وبين المعجميين والألسنيين وخبراء النظريات التداولية. ولعل القطيعة بين هذه الاختصاصات هي التي تفسّر غياب إطار نظري لقضايا العربية في مجال المال والأعمال. وستظل نظرة المختصين الأحادية قاصرة، بالضرورة، في وضعية كهذه.
والحاصل أنه لا سبيل إلى أن تفرض العربية نفسها في سوق المال والأعمال إن لم يتم توفير مفردات وعبارات وتراكيب من صميمها، تشدّ المستخدمين على حساب الخيارات الأخرى. وليست المفردات، في فضاءات التواصل، سوى عملة لا يجري استعمالها إلا إذا وَجد فيها الناسُ ثلاثة شروط، حددها علماء الاقتصاد حول العملة: وهي أن تكون وسيلة تبادل مرنة، وأن تكون أداة عدّ لها ثباتها، وأن تخزّن القيمة فيثق فيها المستخدمون. وما هذه الشروط على العربية بعزيزة.