ينطوي مشروع الناقد المغربي شرف الدين ماجدولين (1969) على نقطتين أساسيتين؛ الأولى تضعه برفقة باحثين آخرين من شمال المغرب كـ محمد مشبال وعبد اللطيف الزكري وغيرهم من الذين انخرطوا منذ تسعينيات القرن الماضي في حلقة بحث حول الصورة السّردية، بعد أن تأصّل مفهومها على يد محمد أنقار في كتابه "صورة المغرب في الرواية الإسبانية".
أما النقطة الثانية، فهي انعطافه بهذا المفهوم في كتابه الأوّل "بيان شهرزاد" (2001) صوب نص "ألف ليلة وليلة". فهو من الأسماء التي استطاعت استثمار مفهوم الصورة الروائية في دراسة النص النثري، كما في دراسة نصوص حديثة، منفتحاً في نفس الوقت على التشكيل والسينما والرواية.
مثَّل الاقتراب من النص التراثي قبل سنواتٍ فكرة، قد تبدو مجازفة على اعتبار النظرة التي لم تزل إلى الأمس القريب تتعامل معه بقليل من الجدية. ولا شك أن هواجس كثيرة قد تسبق أي دراسة لـ "ألف ليلة وليلة" عند أي باحث.
أما بالنسبة لصاحب "الفتنة والآخر"، فيقول في حديثه إلى "العربي الجديد" عن ظروف انكبابه على هذا النص: "حين فكرت في الاشتغال على "ألف ليلة وليلة"، في كتابي "بيان شهرزاد"، كانت طبيعة النظرة إلى الكتاب قد تغيّرت بشكل جذري، حيث بدأ يشغل أهم الباحثين في الدراسات النقدية، وما يتّصل بها من حقول معرفية، نجِده في الدراسات السردية والأسلوبية والدراسات التاريخية المقارنة والفيلولوجيا والدراسات النسوية والتحليل النفسي والدراسات الثقافية... كان نصاً سائحاً ومتغلغلاً في المتخيّل المعرفي، وفي الآداب العالمية، فهو من النصوص النادرة، التي استمرت عملية صياغتها عبر قرون عديدة، فامتزجت فيه التأثيرات الثقافية واللغوية والعقائدية".
نص "ألف ليلة وليلة" هو بحسب ماجدولين "حصيلة تعدّد ثقافي قبل أن يكون مولداً لهذا التعدّد على مستوى التعبيرات الفنية، بل إنه بحكم وضعه ذاك بات مؤهلاً أكثر من غيره لأن يستثير شتّى أنواع المعالجات الدرامية والسينمائية والروائية والموسيقية والتشكيلية".
وعن اختياره عُدَّة الصورة لقراءة هذا النص يبيّن "لكل هذه التأثيرات وغيرها كان اهتمامي بهذا الكتاب عبر مدخل "الصورة" سواء بمعناها البصري المتّصل بالتمثيلات المرئية للعمل، أو بمغزاها الأسلوبي الدّال على تعدّد الخطابات السردية والشعرية التي قد تبدأ بالخرافات والسير ولا تنتهي بمقاطع الخمريات والغزل الصوفي، أو بالمعنى الأشمل الذي تتّصل فيه الصورة بالمرجعيات الثقافية المتشابكة. وأعتقد أنه اختيار مكّنني من ارتياد مجالات معرفية ما كنت لأرتادها مع نص غيره، من مثل التعامل مع الأدب الشفوي والمكتوب (المصاحب بتمثيلات بصرية)، وولوج عوالم الطبعات الحجرية القديمة، هذا فضلاً عن أنه ليس نصاً عربياً خالصاً، أو حكراً على العارفين بالعربية، ولكنه نص نُقل إلى عدد لا حصر له من اللغات وله أصول بلغات شرقية أخرى غير العربية، وهو التعدّد اللغوي الذي استتبع عدداً لا حصر له من القراءات والتحليلات النقدية".
في كتابه "الصورة السردية في الرواية والقصة والسينما"، ثمّ في كتاب "حكايات صور: تأويلات نقدية"، تستمر الصورة كمرجع أساسيّ في اقتراب ماجدولين من النصوص، لكن هذه المرة اشتغل محاورنا من داخل نصوص حديثة؛ سينما، قصة، رواية. مما دَفعنا لمشاركة الكثير من المهتمين بالنص السردي سؤالهم، هل يمكن اعتبار هذا الانتقال استنفاداً للبحث في النص السردي القديم؟
بالنسبة إلى ماجدولين: "هذان الكتابان يعدّان اختباراً نقدياً يسعى لتوسيع مدار المعايير النظرية التي اتّخذت صبغة التكثيف والتركيب في دراسة "ألف ليلة ليلة"". يضيف "لقد كنت منشغلاً منذ البداية بجدلية اللفظي والبصري، لكن "الليالي" لم تسمح بتجريب المقترب الأسلوبي المتّصل بمفهوم الصورة على متن واضح الانتماء إلى خطاب سردي مفرد، إما لفظي أو بصري؛ لهذا كانت تحليلاتي في هذين الكتابين تستهدف الخروج من إرغامات النص المتفرع مع ما قد يشترطه من عناية بمسارات الجدل بين الأنساق اللفظية والبصرية، إلى استكناه طبيعة التجليات النوعية والنصية للصور السردية المستقلة ببنيتها، حيث تناولت الصور الروائية والقصصية والسير-ذاتية بما هي تشكيلات أسلوبية تستند إلى خطاب لفظي متجانس وذي كنه تخييلي متغاير، كما تناولت في المقابل تنويعات بصرية للصورة تتّصل أساساً بالصور السينمائية من حيث هي سردية موازية تستجيب للقواعد الناظمة لمجمل الصور الفنية، لكنها تشترط وعياً نوعياً مختلفاً يتكامل مع الإدراك اللفظي وينزاح عنه في الآن ذاته".
يضيف "لا أريد أن أكرّر هنا ما يردّده الكثيرون من كون الصور هي التي تختار نهجها التحليلي، لكني أومن أن الاشتغال على المتن السردي (اللفظي والبصري على حد سواء)، يطرح دوماً أسئلة تتعلّق بعدم مصادرة حقّ المتن في الانتماء إلى مدار جمالي وسياق تعبيري، لا نعلم عنه نحن إلا ما نحاول أن نتخيّله بناء على ما تمدّنا به المعارف المحيطة من البلاغة إلى الميديولوجيا".
وفي إصداره "ترويض الحكاية"، بدأ ماجدولين في الابتعاد عن مفهوم الصورة، لكن في كتاب "الفتنة والآخر"، صار مفهوم "الغيرية" مدخلاً إلى التحليل. وعن خلفية هذا الانتقال النظري الطارئ من معيار الصورة إلى إبدالات مفهومية أخرى، يجيبنا الباحث المغربي: "أتمثّل اليوم كتاب "ترويض الحكاية" بما هو ملحق لكتاب "بيان شهرزاد" فقد لفت انتباهي أثناء دراستي لحكايات "ألف ليلة وليلة"، العدد الهائل من المقاربات التي لاحقت التفصيلات الحكائية لـ الليالي، انطلاقاً من مقصد جمالي أو سردي أو موضوعي واحد، يكون مدخلاً إلى اختبار مجموعة من الافتراضات القرائية بصدد المتن السردي المدروس، بحيث تبدّى لي حينها أن "المتن التراثي" تحوّل إلى نموذج اختباري لرصد تطور آليات النظر النقدي.
يتابع ماجدولين "من هنا فقد كنت أسعى إلى الوقوف على صيغ أخرى مختلفة لذلك النزوع التحليلي الذي رفد اشتغالي، حيث اتضح لي أن محاولة "التجريب القرائي" المتواتر بصدد النص السردي ليست في العمق إلا صقلاً لمهارات القارئ للانخراط في الجدل النقدي حول مفاهيم: "الصورة" و"النص" و"التشكيل النوعي" و"البلاغة" و"الآخر". من هنا فإني لم أكن أبتعد في العمق عن إشكال الصورة في "ترويض الحكاية" بقدر ما كنت أسعى إلى أن أطلّ عليه من زاوية حضوره أو غيابه في ممارسات الآخرين".
ويكمل "أما حين أصدرتُ كتاب "الفتنة والآخر" فقد كنت منشغلاً بتحديد زاوية النظر إلى تنويع معيّن للصورة السردية وهي حين تجسّد "الآخر"، فنحن في النهاية لا يمكن أن نتمثّل "الغيرية" إلا عبر وسيط الصورة، التي تطبع الفتنة اللفظية والبصرية، ولا نستطيع أن نتصوّر "السرد" إلا من حيث هو صور للذات في علاقتها بـ "الآخرين"، يتمّ عبر أشكال من التفاعل المتأرجح، هو مصدر لتخيلات شتى".
الضوء على القارئ
يحمل الكتاب الجديد لـ ماجدولين عنوان "قارئ الرواية"، قارئ الرواية بالتحديد وليس الحكاية أو اللوحة أو الفيلم كما في أعمال أخرى.
يقول: "أعتقد دوماً أن وعيي النقدي مدين في جوهره لفن الرواية، وإن كان يمتح من تفريعات متشعّبة ومتعارضة أحياناً، وتمثُّلي اليوم لعدد كبير من القضايا المعرفية والفكرية أنضجته روايات. كتابي الأخير هو تصالح مع هذا النزوع المتغلغل في نظرتي إلى الأشياء".