يكفي أن يقال "أندلسيون" حتى ينصرف الذهن إلى فترة الحكم العربي في الأندلس، هذا بالنسبة للمطلعين والخبراء، أما بالنسبة لمن لا يعرف ما هو معنى ودلالة العرب في الأندلس، فسيضع هذا العنوان في ذهنه معنى جديداً ودلالة غير مألوفة تمحو الدلالة التي نشأنا عليها.
يصبح الأندلسي هنا ملتبس الملامح لا تعرف هل المقصود به الإسباني أم العربي أم أية جنسية أخرى هابطة من المريخ، وتتحوّل الحضارة العربية الإسلامية هناك إلى حضارة "أندلسية" لا نسب لها بالمنطقة الشاسعة التي نسميها الوطن العربي.
بهذه الطريقة، وفي هذا المجرى يرى المشاهد ويسمع حكاية مصوّرة في فيلم عنوانه "الأندلسيون" من تدبيج وتعليق وتصوير شركة غربية. كانت حكاية الفيلم أشبه بتحقيق يسعى إلى استقصاء صورة ذلك المجتمع الأندلسي الغابر، والوصول إلى ما لم تقله المصادر الشائعة (وإن كان حاضراً على صعيد أكاديمي ضيّق)، إلى تلك الفترة التي حلّت وأقامت بعد تساقط مدن الأندلس العربية بزعماء دولها المسماة دول الطوائف على يد ملك قشتالة وأراغون، ومجريات الاضطهاد الديني والعرقي غير المعقول الذي تعرّض له العرب/المسلمون، وفقراء الإسبان، الذين نشأت محاكم التفتيش للتفتيش عنهم وإحراقهم في الساحات العامة.
ثم ما أعقب ذلك من أحداث، حين غارت الثقافة العربية الإسلامية تحت الأرض، وتحوّل من لم يطردوا أو يقتلوا إلى عقيدة الكاثوليكية الإسبانية قسراً، مع احتفاظهم بذكريات غامضة عن أجدادهم حتى الوقت الراهن.
حكاية الفيلم (هو هنا مجرّد تمثيل لظاهرة وليس المقصود الحديث عنه بذاته) مثيرة للاهتمام، وكان يمكن أن تكون أكثر جدوى وتلقي أضواءً أكثر أهمية لو استعان من كتبها وأعدّ مشاهد تصويرها بعدد من الخبراء في تاريخ الحقبة الأندلسية في إسبانيا، ولم يلجأ إلى تقديم صورة سوريالية عن معنى تدخّل المرابطين والموحّدين لصالح إخوانهم في الأندلس، فاعتبره "تدخل متعصّبين" في مجريات حضارة كانت تعيش عصرها الذهبي!
والأغرب في هذا السياق أن كاتب الحكاية لم ينتبه إلى تتلمذ الغربيين على يد أساتذة غرناطة وقرطبة إلا بعد سقوط هذه المدن بيد من أحرقوا المكتبات وقوّضوا وضعاً حضارياً، وتسبّبوا، كما يرى روجيه غارودي في تخلف إسبانيا بضعة قرون عن النهضة الأوروبية اللاحقة.
حقيقة الأمر على العكس تماماً، فالأوربيون توافدوا على قرطبة وغرناطة وإشبيلية إبان ازدهارها، وهي بيد العرب، وليس في ما بعد. وهناك صفحة لم يفتحها كاتب حكاية الفيلم، وهي مفاعيل الحضارة العربية الإسلامية الأندلسية في عالم الغرب، ومساهمتها في إخراجه من قرونه المظلمة، حين انتقلت فنونها وزخارفها وكتبها، بل وحتى أساليب قصصها وطرائق حياتها، إلى بلاطاته وعمائره وملابسه عن طريق الجنوب الفرنسي والإيطالي، وتسرّبت إلى بقية عواصمه. بدلاً من كل هذا نجده يختتم تحقيقه بالمجيء بأستاذ جامعي مضحك من القرن الحادي والعشرين يزعم أنه غير معني بهذه الحضارة، فهي غريبة عنه، ولولا تدريسه للغة العربية لما وجد فيها شيئاً جديراً بالاهتمام!
يبدو أن صورة الأندلس التي اتضحت في مجال الأكاديميات ستظل حبيسة هذا المجال، فلا كان هناك آسين بلاسيوس الذي فصّل ما تدين به ملحمة دانتي إليجيري السماوية للثقافة العربية سطراً سطراً، ولا مرغريتا غوميز التي تحدّثت عن ما سمتها الثمار العظيمة في الأندلس التي شهدت أهم اندماج عرقي وحضاري بين الشرق والغرب، ولا روجر بواز في حديثه عن تقاليد الحب النبيل الذي عرفه الغربيون بتأثير العرب، ولا آخرون كثر كسروا الحظر الذي فُرض على ذكر ما للثقافة العربية، والأندلسية بخاصة، من فضائل منيرة في عصور هم يصفونها بأنها كانت عصوراً مظلمة.
هذه الصورة يتكرّر حظرها، ولن تسعى أفلام من هذا النوع، ولا حتى أقلامٌ، وخاصة ما سينتج من الآن فصاعداً، إلى تعميمها خشية أن يكتشف الغربي أن العربي والمسلم صانع حضارة وليس متوحّشاً كما تصوّره له أفلام هوليوود وجملة من قمامة الفنطازيات السياسية التي يكتبها من يزعمون أنهم خبراء في شؤون العالم العربي والإسلامي في مراكز أبحاث وتخطيط همّها الوحيد خدمة تجار أسلحة وناهبي ثروات وأسواق وحروب.. ونقطة على رأس السطر.. ولا شيء بعدها.