وشكسبير، في هذه المأساة التي لا تزال تثير اهتمام النقّاد ومرتادي المسرح على السواء، يروي من خلالها الأحكام المسبقة التي كانت سائدة في أوروبا قبل أربعة قرون تجاه "المختلف".
يبدو أنه لم يتغير شيء منذ تلك الحقبة: فالأتراك والعرب وذوو البشرة السمراء أو الداكنة بشكل عام، ما زالوا يُعدّون "أجانب". هنالك تحديث للصورة النمطية، ولكنّ ذوي البشرة السمراء في تلك الحقبة هم كاللاجئين في وقتنا الحالي؛ عنيفون، فوضويون ولا يمكن بأي حال إدماجهم اجتماعياً.
للأسف، التكرار في هذا السياق لا يطمئن النفس، وإذا لم تُغيّر أوروبا نفسها – يقول الكاتب الألباني كازمند قبلاني (1967)، مؤلّف كتاب "مذكرات مختصرة عن الحدود" – لن تتعلّم من أخطائها، والنتيجة ستكون نفس النهاية المفجعة التي رأيناها مع عطيل والتاريخ.
بعكس الآلاف من أبناء بلده الذين وصلوا إلى إيطاليا عام 1991، كازمند قبلاني كان قد هاجر إلى اليونان، عابراً الحدود بين البلدين مشياً على الأقدام. لم يكن آنذاك قد تجاوز الثلاثين من العمر، وبدأ يزاول الأعمال التي عادة ما يوكلونها إلى الأجانب، مثل غسل الأطباق في المطاعم، وعامل تنظيفات وغيرها من الأعمال التي ينفر منها السكان المحليون.
في أثناء ذلك، درس وحصل على إجازة في الآداب، وتحوّل إلى كاتب، ثم مراسل لإحدى أكبر الصحف الصادرة في أثينا حتى أُعفي من عمله، وكان الصحافي الأوّل الذي يعفى من عمله جرّاء الأزمة الاقتصادية التي حلّت باليونان، ولكن الأسباب الحقيقية تتعلّق بالأحكام المسبقة، أكثر مما تتعلّق بسياسة التقشّف التي اتّبعتها الحكومة اليونانية.
يقول كازمند قبلاني: "في الحقيقة إن اليونان كانت لا تريدني. بعد خمسة وعشرين عاماً دفعت خلالها الضرائب، كتبت مؤلّفات باليونانية، فكرت باليونانية، عشت كيوناني، ولكن بالنتيجة، اليونان رفضت أن تمنحني الجنسية. ماذا كان بوسعي أن أفعل؟ أن أدعهم يمسخونني؟ بحثت عن مكان آخر يستقبلني. وأرض الفرص لم تكن حتى أوروبا، بل في الولايات المتحدة: أنا مرآة للمرض الأوروبي".
يضيف "إنه من المخجل أن يعيش في الاتحاد الأوروبي أناس منذ عشرات الأعوام دون أن يُعترف بهم، والأطفال الذين يولدون في أوروبا لا تُمنح لهم الجنسية. أعيش في أميركا منذ أربعة أعوام وأملك عقد عمل دائم، وأدرّس الكتابة الإبداعية في "معهد إمرسون وويلسلي" حيث درست هيلاري كلينتون ومادلين أولبرايت".
أوروبا قارّة تلتقي فيها القومية مع العنصرية والنتيجة أنها بدأت تفوح برائحة القمصان البنّية والحروب الأهلية، بحسب كبلاني الذي يشير إلى الأكاديمي والسياسي البريطاني العنصري أينوخ باول الذي كان يتكلّم في الستينيات عن انتحار المجتمعات التي تتقبّل غير البيض. في الثلاثينيات والأربعينيات كانوا يهتفون "لا للأقليات"، واليوم هنالك من يعيد نفس العبارة بطريقة مختلفة. إنه خيار لا يفتقد إلى الأخلاقية فحسب، إنما يودي إلى الانتحار أيضاً".
ورغم أنه يخاطر بأن يتحوّل حديثه إلى نقاش عاطفي من دون أخذ الواقع بعين الاعتبار، إلا أنه مثل كثير من الكتّاب الأوروبيين، يميل إلى اعتبار الهجرة حادثاً تاريخياً، حادثاً عابراً، وليست الخلاصة التي تؤدّي إلى تنمية مجتمعات ديناميكية ومتقدّمة، حيث الهجرة تُفقر البلاد التي يتركها المهاجرون وليس البلاد التي يلجؤون إليها.
المدهش أن قبلاني لا يؤمن بالمجتمعات المتعدّدة الثقافات وبلغات مختلفة، ولا يستبعد بأن الهجرة إذا استمرت على هذا المنوال، ستؤدّي إلى اندلاع حرب بين المهاجرين والسكّان المحليين.
ماذا سيحدث: الانغلاق أو الاستيعاب؟ سؤال يطرحه ويجيب عليه المؤلف عندما يتحدّث عن كوخ الصفيح الذي وُلد فيه، وعن عائلته التي كانت مُصنّفة على اللائحة السوداء من قبل النظام الشيوعي، والتي حُكم عليها بالعيش في بيت مُزْرٍ في ضاحية لوشنيا، مسقط رأسه.
ورغم هذه الحياة القسرية، إلا أنه يعتبر نفسه محظوظاً، بعد أن اكتشف "سفرا"، وهي قرية تقع على بعد بضعة كيلومترات من لوشنيا. كانت سفرا مقسّمة إلى قسمين: أرض "الملعونين"، حيث كان يعيش المُبعدون من النظام، بينما "أعداء الشعب"، كانوا يعيشون في أكواخ أو إسطبلات سابقة للحيوانات، وفي الوسط، كان يعيش "مواطنون عاديون"، من ضباّط وموظّفين حكوميين في أبنية من القرميد.
وكان يعيش في أرض الملعونين أكثر الناس ثقافة في ألبانيا، ومعظمهم من خرّيجي الجامعات الأوروبية، إذ أنهم كانوا يقرؤون أكثر من أي بقعة أخرى في البلاد. كان الكتاب بالنسبة إليهم كنفق تمّ حفره تحت سور السجن!