كاد أن يموتَ نكرةً في شوارع باريس القاتمة، بعد أن ساء ظنُّه بأغلب المفكرين من مُعاصريه العرب والأوروبيين. فعاد إلى مصر مريضاً، يواصل الشكوى من ظلم الزمان وأهله الذين غمطوا كُتبَه، وهي كثيرة ناهزت المائة وخمسين بالعربية، عدا تلك التي صاغها باللسان الفرنسي.
تمرُّ اليوم خمسة عشر عاماً على رحيل عبد الرحمن بدوي (1915-2002)، المفكر المثير للجدل، مع تسليم الجميع بإنتاجه الغزير، فهو لم ينقطع عن التأليف من نهاية ثلاثينيات القرن الماضي إلى مطلع الألفية الثانية: ترجمةً وتحقيقاً وبحثاً.
ولإصداراته التراثية يدين كلُّ من اشتغل في حقل الإسلاميات الكلاسيكية بلا استثناء. واللافت أنَّ مجهوده الفيلولوجي في قراءة التراث لم يحظ بعناية كافية في المراجعات التي تستعيد آثاره، مع أنَّ ما أنجزه في مجال تحقيق النصوص القديمة هو أبرز قسم في مسيرته الحافلة، بل لعلَّه الأثبت فيها، مقارنة مع كتاباته الوجودية والأدبية التي تبرَّأ من جلّها في أيامه الأخيرة.
تعني الممارسة الفيلولوجية السعي إلى إدراك عبقرية الحضارة الإسلامية عبر الدرس التمحيصي لتجلياتها اللسانية العربية، ويحصل هذا الإدراك عبر المعالجة النقدية لنصوص هذه الحضارة، معالجة تغطي كافة ميادين الإنتاج الفكري المكتوب، دون الاقتصار على فنٍّ واحدٍ.
وقد اتَّبع المفكّر المصري هذا التصوّر، فجعل من التراث العربي الإسلامي موضوع استقصائه الرئيس. وتصدّى له تحقيقاً وتثبّتاً وإخراجاً دون أن ينحصر اشتغاله على نصوص الفكر الإسلامي المحض، بل تعداه إلى الروافد الإغريقية والتأثيرات الغنوصية، الفارسية والهندية، واستعادها جميعاً بنفس صرامة المنهج التحليلي، فاستعرض صفحات جريئة من "تاريخ الإلحاد في الإسلام" (1945)، وبنفس الروح أرَّخ لـ"شطحات الصوفية" (1949) وهيام البسطامي، ونَشَر مدوّنات الحِكَم المنبثقة عن أخلاق الفلسفة وتجارب العقل، كتلك التي صاغها المبشر بن فاتك في "مختار الحِكَم ومحاسن الكَلِم" (1958).
وقد عزز دراساته هذه لعيون التراث بالاطلاع الواسع على أهم ما توصّلت إليه أبحاث المستشرقين، الذين يكتبون باللغات الأوروبية، في موضوعات شديدة التعقيد والتجريد ومنها المتصلة بكليات الفلسفة الإغريقية، مع التركيز على المتن الأرسطي والأفلاطوني، فألف "رَبيع الفكر اليوناني" (1943) وأردفه بـ"خريف الفكر اليوناني" (1946)، في تلخيص أشبه ما يكون بالسرد النسقي لآخر ما توصّلت إليه مدارس الاستشراق حول التلاقي بين الفكرَيْن: الهلليني والعربي على امتداد العصور الوسطى، وهو ما تطلَّب منه اجتراح خطابٍ جديد لم يعهده الدرس العربي وقتها.
وكان من ثمراته إمداد اللغة العربية بكل مفردات المنهج الاستشراقي (الفيلولوجي، التاريخي، النقدي الإشكالي) وتطعيمها بالمفاهيم والمقولات التي صاغتها أجيال الباحثين لقراءة التراث بشكل موضوعي، لا تمجيد فيه ولا تحيّز.
ومن جهة ثانية، اضطلع أستاذ الفلسفة بترجمة العديد من الأعمال العلمية الاستشراقية بتقديمها في لغة سلسة أنيقة، مكَّنت القارئ العربي من الاطلاع على آخر الأبحاث الأكثر تخصصاً في هذه الحقول المعرفية المجردة، وجلّها يتناول الفلسفة الكلاسيكية، مع دراسة مسالك انتقالها من الفضاء اليوناني إلى رديفه العربي- الإسلامي. وبهذا المعنى، كانت ترجماته مزدوجةً: نقلت من جهة أولى هذه التصوّرات والمضامين من اللغات الأوروبية إلى لغة الضاد، ومن جهة ثانية حوّلتها من السجل الكلاسيكي، الذي اقترض جلَّ وحداته من اليونانية القديمة، إلى السجل المعاصر، الذي تشكّل على وقع الفلسفات الغربية الحديثة.
ولم تقتصر مساهمة صاحب " موسوعة المستشرقين"على نشاط النقل والتعريب، بل أنجز سلسلة أعمال أصيلة، طبَّق من خلالها المنهج الفيلولوجي-النقدي على نصوص التراث، بدءاً من تجميع المخطوطات النادرة بعد التنقيب عن نُسخها في مكتبات أوروبا، وإجراء مقارناتٍ لمختلف القراءات الممكنة لنصّها، مع التثبت من كلماتها وتحقيق معانيها.
ويعود له الفضل في اكتشاف كثير من كنوز الفكر الإسلامي التي طوتها غياهب النسيان، ومن أمثلة ذلك اكتشافه "رسائل ابن سبعين" (1965) و"رسائل الكندي والفارابي وابن باجة وابن عدي" (1973)، ونشر "صَوَّان الحكمة" لأبي سليمان السجستاني (1974)، فضلاً عن آثار "أرسطو عند العرب: دراسة ونصوص غير منشورة" (1947) و"أفلاطون في الإسلام" (1973).
بَرع بدوي، ضمن أبحاثه الفيلولوجية، في صنع البيبلوغرافيات الكاملة التي تشمل مؤلفات كاتبٍ بعينه، ويكمن هذا المجهود في استعراضٍ نقدي لكل النصوص المأثورة، الثابتة والمنحولة، من خلال ذكر مخطوطاتها، ومطبوعاتها وترجماتها، والدراسات التي صيغت حولها في كل مكتبات الدنيا، بحيث يتحوّل كل عنوان إلى مدخل موسوعي يشمل كل ما يتصل به، ومن ذلك مثلاً إحصاء "مُؤلفات الغزالي" (1961) و "مخطوطات أرسطو في العربية" (1959) إلى جانب جردٍ لـ "مُؤلفات ابن خلدون" (1979). والملاحظ أنَّ هذا الضرب من البحث الاستقصائي لم يعد متداولاً لدى الباحثين العرب والأوروبيين، رغم أهميته
كما سعى في كتاباته التراثية هذه إلى بيان مشاركة العرب، حلقةً أساسية، في تاريخ العلوم الفلسفية والصحيحة والمنطقية التي توارثوها عن اليونانيين، فبرهن على أنَّ مساهماتهم في نقل المعارف إلى أوروبا في العصور الوسيطة كانت حاسمة: تمثّلت النتاج الإغريقي ومحّصته وتجاوزته ثم أهدته إلى الثقافة الكونية.
ومن جهة أخرى، جهدَ بدوي في إظهار مدى تنوّع فنون الثقافة الإسلامية من خلال الكتب التي حققها، فلم يقدم وجهاً واحداً ضيّقاً، بل بيّن تشعب تيارات هذا التراث وتناقض مدارسه وثرائها، رغم وجود إشكالية جامعة: النزاع المستدام بين العقل والنقل، بين الحرية والقضاء. ولذلك عكف على فحص العلاقات بين العلوم الأصيلة والعلوم الدخيلة، كما كان يطلق عليها قديمًا، أي التي انعقدت بين المعارف النقلية والعقلية، ليثبت عبقرية هذا الفكر الإسلامي في تمثّل المفاهيم الكونية.
وقد ارتأى أن يتوّج تآليفه التاريخية بدفاعٍ عن القرآن ضد أباطيل المستشرقين (1989) وبدفاعٍ ثانٍ عن سيرة النبي محمد (1990) ضد أطروحاتهم الجائرة، وأرفقه بترجمة لسيرة ابن هشام إلى الفرنسية (2001)، وكل ذلك في مزج بين الاستقصاء العلمي والالتزام الحضاري، بعد أن لاحظ تحيّز بعض المستشرقين وتعاميهم عن وقائع التاريخ.
بدأ عبد الرحمن بدوي مسيرته من الصفر، فلم يقف عند تراث النهضة العربية إلا لماماً، بل خاض غمار الفلسفة اليونانية والأوروبية من أبوابها الوجودية، وهي التي أوصلته إلى منابع العقل العربي والخطاب الاستشراقي عنه، في حركة تشبه العود الأبدي، مروراً من درس الفيلولوجيا الأوروبية في القرن العشرين، وصولاً إلى أدغال الفكر الإسلامي بكل تشعباته، فانحصر حواره بين وجوه الماضي العربي والفكر الغربي، كأنْ لم يَجد في الساحة العربية من معاصريه من هو جدير بمناقشته. فهل ثمة عقدة ثابتة في الثقافة العربية تستنقص الحاضر؟ أم إنَّ المتخيل الذي صاغه عن تفوّق التراث هو الذي حَجب عنه كنوزَ الراهن؟