هذا السؤال الذي يطرحه الناقد الفلسطيني إسماعيل ناشف في مقدمة كتابه "العتبة في فتح الإبستيم"، وهو كتاب تتوجّب قراءته مراراً ـ قد نقرأه كدعوة إلى لامركزية العقل أو إلى عقلانية دياسبورية، تلك التي رفضت منطق العقل المكتّف بذاته، الذي حكم الحداثة من لايبنيتز إلى هيغل وما بعدهما. إننا من جهة ثانية أمام سؤال ـ مفارقة. إنه سؤال يطلب إقناعنا بأنه من الممكن رؤية العالم من خلال فلسطين.
قد لا تسلم هذه الرغبة المتوهّجة في رؤية العالم، والرؤية هنا حكم، من "إغراء الجدار"، بل قد تنحرف إلى ما يمكن أن نسميه بـ"تجدير للعقل" شأن كل خطاب ثالثي أو قومي أو هوياتي. وهو ثالثاً سؤالٌ متفائل إلى حد كبير، وهو في تفاؤله، يغفل الطريق إلى السؤال الأكثر مركزية: لماذا لا تستطيع الحداثة أو لا تريد رؤية فلسطين؟
يذكّرنا الأمر هنا برائعة رالف إليسون "الإنسان اللامرئي"، وعين الرجل الأبيض، تلك العين الداخلية التي تحجم عن رؤية الآخر. لكن اللامرئية ليست اجتماعية أو لا اجتماعية فقط، كما سبق وحلّلها آكسيل هونيث، فقد نتحدّث أيضاً عن لامرئية معرفية، هي نتاج لتلك العلاقة البنيوية بين المعرفة والسلطة في الخطاب الحداثي. هي تلك اللامرئية التي لا تطلب فقط اختزال فلسطين في معرفة، بل طردها من العالم والذاكرة.
مع ذلك، قد نقرأ سؤال إسماعيل ناشف باعتباره ضرباً من المغامرة، وهي مغامرة لن تنتهي بنا البتة إلى بر الأمان، ولا أحسبه كان يطلب ذلك، لكنها على الأقل ستساعدنا على تحقيق معرفة أفضل بأبنية إنتاج المعرفة الحداثية، سواء اتّفقنا مع القراءة التي يقدّمها أم لم نتفق.
سيقرأ المؤلف الحداثة معرفياً انطلاقاً من فلسطين، ومن المأساة الفلسطينية المتكرّرة والمستمرّة منذ القرن التاسع عشر. سيقرأها كما قرأ التجربة الاستعمارية فرانز فانون أو سنغور أو ألبير ميمي أو كاتب ياسين أو الخطيبي وإدوارد غليسون وكثير غيرهم، انطلاقاً من شرطه التاريخي، أو من فلسطين باعتبارها تكثيفاً للحظة الاستعمارية، وسيقرأ فلسطين انطلاقاً من الحداثة، وباعتبارها ضلعاً من أضلاعها المعرفية الثلاثة، التي هي في رأيه: التحقّق والغياب والاحتمال: "فكل محاولة في مقاربة فلسطين، هي تعرية جانب محدّد من هذا النظام وآليات عمله الأساسية، التي تقع غالباً خلف ستار كثيف من دهن المعاني المؤدلجة".
يرى ناشف أن المعرفة الحداثية ظلّت تتراوح بين التحقّق والغياب، هادفاً من جهته إلى بحث المعرفة، انطلاقاً من فلسطين، باعتبارها احتمالاً، لمعرفة تفتح الإبستيم، وتعيد الاعتبار إلى الموضوع، لكن عودته إلى فلسطين لن تلغي كما يعتقد ثنائية الذات/ الموضوع، بل إننا نشتم من خلال هذه العودة نفحة استغرابية، تجعل الفلسطيني يخطئ الطريق إلى الآفاق الثورية للمعرفة الحديثة، التي يمكننا أن نحوّلها إلى نوع من النقد المزدوج، نوجهه إليها وإلينا، إلى قابليتنا للاستعمار.
إن الحداثة تظلّ في الرؤية الاستغرابية، ونعرفها من ثقافتنا من مفكرين كثر، على رأسهم حسن حنفي والجابري ـ مفهوماً جوهرانياً، يبدو مثل كل مطلق، فاغراً فاه، يبتلع كل شيء في طريقه، وهي رؤية لن نعدم وجودها في كل تلك البكائيات ما بعد الحداثية، التي في احتفائها بالهوامش، لا تفعل أكثر من استنساخ المركز، كما أوضح ناشف ذلك أيضاً.
لكن الحداثة برأيي لا يمكن فهمها إلا في صيغة الجمع، وسيدفعنا هذا لإدراك أفضل لاشتغال العنف بداخلها، كما سيدفعنا للالتحام بوعيها النقدي، الذي لم يكن البتة وعياً خارجياً، بل وعياً من داخل الحداثة، وهو وعي مشروط بتاريخية المعرفة، ويقظ لاشتغال السلطة بداخلها، وهو الوعي الذي سيدفعنا بدلاً من قراءة فلسطين من خارج الحداثة، أن نقرأها من داخل الحداثة، باعتبارها استمراراً لأوشفيتز وللمشروع الاستعماري المستمر، ولربما التعبير الأكثر كثافة عنه.
إن فلسطين هي أفريقيا أيضاً، إن لحمها أفريقي، وهناك حيث تستمر إمبريالية العقل كما كتب أدورنو ستستمر أوشفيتز. لهذا فمن يحصر فلسطين في جغرافيا محدّدة، من يسيّجها بجدار القومية أو الإثنية أو الدين، يفرغها من لحم العالم، ويتماهى مع الدور الذي اختارته له الحداثة، يحاكمها وهو في واقع الأمر لا يحاكم سوى نفسه. لهذا أختلف مع ناشف في السؤال الثاني الذي يطرحه في كتابه: "من هي فلسطين معرفياً؟" كما اختلفت معه في سؤاله الأول.
فالسؤال الثاني يطلب حصر فلسطين واختزالها، في بعدها المعرفي، وهو بذلك لا ريب يعيد إنتاج عنف الحداثة الذي يطلب الخروج منه. بدلاً عن سؤال الماهية، كان عليه أن يطرح سؤال اللماذا؟ لماذا فلسطين؟ وهو سؤال سيفتحنا على الإخفاق الإيتيقي للحداثة.
فلن تكشف فلسطين عن نفسها، إلا حين نحرّرها من المعرفة، من رغبتنا في تحويلها إلى معرفة، ونفتحها على الوجه ـ كما فعل محمود درويش ـ وأعني بالوجه هنا تاريخ من نسيتهم المعرفة، من لا معرفة لهم أو من لا يطلبون معرفة، لأنهم لا يطلبون الهيمنة، وهم يصغون لأصوات أسلافهم في الرياح، وهو الوجه الذي تحاول المعرفة أياً كانت، العبث بملامحه ومعاناته، اختزاله في معنى، بل والذي لن نعدم ناساً يحاولون سرقته باستمرار أو من يريدونها فلسطين بلا وجه.
إن السؤال وجه. وسنخطئ الطريق إلى السؤال، ما لم ندرك أن المشروع الحداثي الذي أنتج الجلاد هو من يستمر بإنتاج الضحية، بل وبتشكيل رؤيتها لنفسها وللآخر، فعقل المركز، كما كتب بورديو هو من ينتج لاعقلانيات الأطراف، ولهذا سيكون من الوهم محاكمة الحداثة من خارجها، فهي من تصنع ذلك الخارج أو توهمنا بوجوده، إنها تصنع حتى طبيعة العلاقة التي نبنيها مع داخلنا، ولا يمكن لفلسطين أن تتحوّل إلى مشروع نقدي للحداثة، أو إلى احتمال، إلا إذا فهمت طبيعة الهيمنة الغربية، واشتغال تلك الهيمنة بداخلها، واستمرارها حتى فيما تعتقده نقداً للحداثة.
إسماعيل ناشف، من مواليد 1967 في الطيبة بفلسطين المحتلّة. أستاذ مشارك في "معهد الدوحة للدراسات العليا". من بين إصدراته: "قصة قناع استعماري" (2017)؛ "طفولة حزيران: دار الفتى العربي وأدب المأساة" (2016)؛ "صور موت الفلسطيني" (2015)؛ "في التجريد الفلسطيني: زهدي قادري واللحن الهندسي للحداثة المتأخرة" (2014)؛ "معمارية الفقدان: سؤال الثقافة الفلسطينية المعاصرة" (2012)؛ "العتبة في فتح الإبستيم" (2010).