لكن هذه المشاريع التي لا نعرف عند مدى تحقق أهدافها ونجاحها في زيادة الإقبال على القراءة تعاني من مشكلة أساسية وهي اتباع الطرق غير التقليدية، تلك التي عادة ما يسلكها الأفراد مستفيدين من خفة الحياة اليومية والبعد عن ثقل المعارض والندوات على القارئ العادي أو ذلك المحتمل الذي تستهدفه، ومستغلين إمكانيات وسائل التواصل الاجتماعي التي لا حدود لها.
من المبادرات الفردية التي تسعى إلى تشجيع القراءة واشتهرت في الآونة الأخيرة تلك التي أطلقها قارئ مغربي على صفحته في فيسبوك بعنوان "الرواية المسافرة" والتي أصبحت حملة تجاوزت المغرب، وأصبح القرّاء عبر بلدان مختلفة يتبادلون روايات أحبّوها أو يبحثون عنها بالبريد.
وهناك مبادرة "حواضر الشرق الأوسط" التي أطلقها فنان الفيديو آرت حمزة شمص، القادم من ريف بعلبك. يقول شمص في حديث لـ "العربي الجديد" إنه أطلقها منذ آب/ أغسطس الماضي، موضحاً "أتيت من ضيعة اسمها بوداي للحياة في بيروت، وبدأت في عمل كفنان فيديو آرت، لكنّي كنت أعاني كثيراً في بيروت وشعرت آخر عامين أنني أعيش صدمة في علاقتي مع المكان، ولم أعد أفهم على المدينة".
بدأ شمص يفكّر في جذور الصدمة، وخلص إلى أن أحد أهم أسبابها هي احتكار المدينة لمصادر المعرفة، يعود بذاكرته إلى طفولته في القرية، حيث لا مكان للكتاب ولا وجود للمكتبة، ووسيلة التسلية والمعرفة في آن هي التلفزيون.
يشير شمص إن قريته ما تزال إلى اليوم على حالها، تفتقر إلى الكتاب، إذ يقول "نتربى في بيئة بعيدة عن مصدر المعلومات والمعرفة والتجربة، ليس هناك عدالة في توزيع المعرفة، المدارس فقيرة الإمكانيات، بينما المدينة فيها الكثير من الشبابيك التي تطل على الكتاب والسينما والفن والمعرفة، في مبادرتي هذه حاولت أن أنقل قدرات المدينة هذه إلى الريف، إلى ضيعتي بوداي".
يستثمر شمص مهارته في الطبخ لتحقيق الحلم، أن يبني مكتبة لأبناء قريته وشبابها وصباياها في محل قديم مغلق يعود إلى جده، تفسح له بعض المطاعم والمقاهي المتعاونة (رواق بيروت، مزيان، زيكو هاوس) أن يصبح الشيف، يطبخ ويتقاضى أجره كتباً وأفلاماً من الزبائن، ومن لا يستطيع يطلب منه أجراً قائمة بكتب قرأها وأثرت فيه أو غيرت من حياته. حتى الآن وصل عدد الكتب التي حصل عليها بهذه الطريقة ألف كتاب بالإضافة إلى مئة فيلم.
بمساعدة أهل القرية وخاصة الأطفال يجري تجهيز المكان ومن المفترض أن يتم رسم الجدران أيضاً، ليصبح مناسباً لوضع أرفف الكتب، وقد أطلق على المكتبة اسم "شاهربان" يقول إنه اسم والدته "لأن الأم هي أرض المعرفة الأولى" وسوف يخصص هذا الجزء للكتب الورقية، تأتي المكتبة في قسمين أحدهما أطلق عليه "شام"، اسم حفيدة العائلة الأولى، لأنها تمثل الجيل المقبل والجزء الرقمي الذي يحلم شمص بتنفيذه على أرض الواقع، لأن المكتبة لها ولأبناء المستقبل مثلها، ومن المنتظر أن ينتهي العمل في المكتبة خلال الصيف المقبل.
يؤكد شمص "المكتبة لن تقتصر على الكتب، أفكّر في جعلها نوعاً من المدرسة البديلة، ستظل المدرسة بشكلها التقليدي حاضرة طبعاً، لكن هذه ستقام فيها ورش مختلفة وتعرض فيها أفلام، وأخطط لبرنامج من المحاضرات عن البيئة والعمران والجندر والفرق بين الريف والمدينة، المعرفة تحرّر الإنسان وتحميه من الصدمات الثقافية والمعرفية التي يكون رد فعلها الرفض والعنف".
أما عنوان الحملة -التي بدأت تتسع وتتعاون فيها دور نشر وتريد قرى أخرى تقليدها- فيستلهمه شمص من تعبير "حواضر"، الذي يستخدم في بلاد الشام ليشير إلى مونة المأكولات البيتية التي تعد لتوفر لقمة العيش اليومية لأهل البيت بلا تكلفة مادية كبير، كما أنها تتصادى مع كلمة "حواضر" بمعنى المدن في الثقافة العربية، وتعني مكاناً جرى إعداده ليكون صالحاً لأن يكون مأهولاً.