يمثّل الفنان اللبناني الراحل بولس ريشا (1928 - 2018) أحد النماذج اللافتة للفن الفِطري الذي يُولد من الواقع ويعبّر عنه، حيث لم يتمكّن من إكمال تحصيله المدرسي في قريته إجدبرا، ليتعلّم صناعة الأدوات واللوازم للفلاحين والعمّال ويفتح مشغلاً في بيته لتصنيعها.
هكذا كان يتعامل في البداية مع الحديد وفق وظائفه العملية ليطوّعه على شكل منجل أو فأس أو باب أو نافذة، قبل أن يتوّجه منذ الستينيات إلى مسار مغاير، من دون تغيير المادة التي يشتغل عليها، حيث بدأ في تشكيل قطع فنية من الحديد جذبت إليه انتباه كثيرين، ومنهم النحّاتان ميشال بصبوص (1921 - 1981) وعارف الريّس (1928 - 2005)، والفنّان التشكيلي وجيه نحلة (1932 - 2017)، لتبدأ مشاركاته في عدد من المعارض في بيروت ثم في باريس.
"تحية إلى بولس ريشا" عنوان المعرض الاستعادي الذي افتتح منذ أيام في "غاليري أليس مغبغب" في بيروت، ويتواصل حتى الحادي والثلاثين من الشهر المقبل، ويضمّ مختارات تغطي أكثر من خمسين عاماً من تجربة الفنان الذي رحل في شباط/ فبراير الماضي.
ساهم انتماء الفنان اليساري في تشكيل رؤيته للفن باعتباره تعبيراً عن العمّال والفلاحين ونمط إنتاجهم، فكان يجمع بقايا الخردوات وقطع المحرّكات والآليات، ويعيد تدويرها لتعبّر المعاول وأدوات الحدادة والبناء والموازين عن مضامين اجتماعية وسياسية آمن بها.
يغلب على أعمال الفنان اللبناني التحرّر من الكتلة المتماسكة، وتجسيد أفكاره التي تراوده في تشكيلات رمزية تشير إلى الإنسان وبعض الكائنات وتعكس قوة في تركيبها وفي أبعادها الرمزية، مستخدماً في تشكيلاته جميع أساليب الدق والطّرق والتّرقيق والتّطعيج عبر تسخين المعدن، وكذلك الصب والسّحب والتوصيل لتؤدي في منتهاها وحدة متكاملة تؤكد على تفاعل الإنسان مع بيئته ومقاومته لكلّ ما يُفرض عليه من سلطة.
غالبية منحوتات بولس ريشا كانت تحاكي الواقع المعاش بأسلوب تعبيري رمزي، وهي في النهاية تجسّد رؤيته في "مواجهة الظلم وسقوط المثل الأخلاقية" كما كان يشير في أحاديثه، وربما عبّر عن ذلك من خلال الأعمال الفنية حيث أصرّ دائماً على أن يتفلّت من أي تقيّد بالنسب والمقاييس والمنهجيات الفنية المكرّسة أو أية أساليب وقواعد تحكم عمله الفني.
في بعض الأعمال يستخدم ريشا الخشب والحصى وبقايا الأبنية إلى جانب الحديد الذي لم يتخلّ عنه طوال حياته، مؤمناً أن لهذه المعدن جنونه وأحاسيسه أيضاً.