تسببت بجدل واسع دموعُ ممرّن المنتخب التونسي التي انهمرت عند الاستماع للنشيد الوطني، قبيل انطلاق مباراة تونس- بلجيكا خلال المونديال الحالي. وتركز هذا الجدل حول التفاوت بين "فائض الوطنية" الذي تجلّى من خلال الدموع وبين محدودية الجهد المبذول في المقابلة، والتي مُني فيها الفريق التونسي بهزيمة ثقيلة.
وتشير هذه الحادثة العابرة إلى مكانة النشيد الوطني في مثل هذه المناسبات الرياضية وما يحف بها من أبعادٍ تمس المخيال الجمعي، فقد تحوّل افتتاح المباريات بالنشيد الرسمي إلى تقليد أساسي لا يُحاد عنه ضمن "الشعائر" الحديثة التي تسبق مقابلات كرة القدم وتصاحبها، حتى أن الإحساس "بالخشوع" الذي يرافق أداءها لا يقل عما يعيشه المؤمنون أثناء الإنصات إلى التراتيل المقدسة: وَجلاً وهيبةً. ويندرج هذا الشعور في وظائف الأناشيد الرامية في جذورها (العسكرية) إلى بعث روح الحماسة في وجدان المتنافسين وتذكيرهم أنهم لا يلعبون لتحقيق فوز شخصي أو نفع مادي، وإنما لأجل أمجاد الوطن الذي إليه ينتمون. وتعد مباريات كأس العالم فرصة نادرة للاستماع إلى هذه الفسيفساء المتنوّعة من الأنغام الرسمية الرامزة إلى اثنتين وثلاثين دولة متباينة الثقافات والهويات.
ومن أبرز ما يسجّل هنا التفاوت الصارخ بين نصوص هذه الأناشيد القديمة ومجريات الواقع الحديث، فجلّ عباراتها مرتبط بذكرى الحروب التأسيسية والمعارك الكبرى التي خاضتها الشعوب في العصور البائدة، ولذلك لم تعد لها من صلة واضحة بعالم اليوم وقضاياه. وهي تتضمن، إلى جانب ذلك أو بسببه، مقاطع عنيفة قد تصدم القارئ المعاصر. ولا أدل على ذلك من المقطع الأول من نشيد فرنسا "لا مارسييز": "هل تسمعونَ في جميع أصقاعِنا عُواءَ هؤلاء الجنود الهمجيين الذي يأتون حتى أسِرَّتِنا لذبح أبنائنا ونسائنا...إلى السلاح"، أو الأهزوجة الألمانية التي تتغنى بالبلد في أسلوب يقارب الغطرسة والتجبّر: "ألمانيا فوق كل شيء في العالم (...) للدفاع والحماية". ونختم بمثل آخر مأخوذ من نشيد البرازيل: "في قلبك الحرية، نَتَحدى بصدورنا حتى الموت ذاته"...
فلا يكاد نشيدٌ يخلو من صور الموت وفظاعات الحروب، وهو ما يزيد من تباعد الشقة بين المضمون العسكري الذي يسم هذه النصوص الملتصقة بمرحلة تاريخية سابقة –إذ ألفت جلُّ الأناشيد في القرن التاسع عشر وما قبله- وبين التحولات المعاصرة. كما لا ترتبط عباراتها الحماسية، ذات النغمة الحربية، بأهداف لعبة كرة القدم بما هي رياضة للجسد وتهذيبٌ للنفس عبر الروح الرياضية التي تناقض في جوهرها أجواء المعارك الطاغية في هذه الأهازيج.
ومن جهة ثانية، تشكل ظاهرة "اشتراء" اللاعبين وتحويلهم من فريق إلى فريق، ومن بلد لآخر، تغييبا للإحساس بالانتماء الذي ترسخه الأناشيد. فكيف للاعب، من أصل أفريقي مثلا، أن ينمي حسًّا وطنيا حين ينضم إلى فريق أوروبي، ثم آخر عربي، وثالث أميركي؟ ويمكننا، في هذا الصدد، أن نُذكر (دون أن نتبنى) الانتقادات المقيتة التي وجهها جون-ماري لوبن، الزعيم السابق لـ"الجبهة الوطنية"، للاعبي المنتخب الفرنسي - وغالبيتهم من أصول أفريقية وعربية- راميًا إياهم بجهل كلمات النشيد الوطني الفرنسي: "أجانب" جيء بهم لتضخيم المسار المالي وأرباح شركات الإشهار والنقل التلفزي... ولهذه الانتقادات، رغم نزعتها الحزبية العنصرية المقيتة، صدًى في الأدب، حيث أجاد الكاتب التونسي شكري المبخوت في تصويرها عبر رواية "باغندا" التي استعادت التغييرات الجوهرية الطارئة على كرة القدم، فحوّلتها من رياضة للتسلية إلى بؤرة صراعات بين الساسة ورجال الأعمال وبارونات الإعلام ضمن مسار الهيمنة على الشعوب.
وأما ثالثة الأثافي فهي التباين المتزايد بين سجلات الكلام العتيقة، التي صيغت بواسطتها هذه الأناشيد، وبين الذائقة الفنية الراهنة: إذ تعود جل صورها البيانية إلى السجل الكلاسيكي ومكوناته المجازية. ويكفي شاهدا على ذلك كلمات النشيد التونسي، ونصه الأصلي، قبل إجراء تحويرات عليه، من إنشاء الأديب المصري مصطفى صادق الرافعي (1880-1937)، الشهير بامتلاكه لناصية البلاغة: "حُماةَ الحِمى يا حماةَ الحمى هَلمّوا هلمّوا لمجد الزمن"، فالحمى كما يُعرِّفه ابن منظور، نقلاً عن الليث (لغوي من القرن الثامن) : "موضع فيه كَلأٌ، يُحمى من الناس أن يُرعى". ثم صار ت المفردة تدل على الوطن الذي تحميه الدولة. وكذلك اسم الفعل: هلمّوا! الذي خرج من استعمالات اليوم وصار من مُعتَّق الضاد.
ويمكن أن نسجل، من خلال نشيد "حماة الحمى" هذا، ظواهر عدة أبرزها أن النص وضعه شاعر غير تونسي، وهو ما جعل منه حبلَ تفاعل بين بلدين عربيين وأكثر (فقد كان هذا النشيد يردّد أيام النضال المصري ضد الاستعمار البريطاني)، ولنا حالة مشابهة في نشيد "موطني" لإبراهيم طوقان (1905-1941) والذي تبناه أكثر من قطرٍ عربي في فترات متفرقة. وهو ما يؤكد علاقة الأناشيد بالأنظمة وتحولاتها. فمثلاً، بعد تسلم زين العابدين بن علي مقاليد الحكم في 1987 أعاد "حماة الحمى" نشيداً رسمياً لأن نشيد "ألا خلّدي" السابق كان يتضمن اسم الزعيم بورقيبة!
ونلمس أخيرًا عدم التناسب بين المرجعيات الرمزية لبعض الأناشيد الرسمية والهوية كموئل للتاريخ القومي والخصوصيات الثقافية، إذ لم تعد الصور التي تتضمنها الأناشيد توحي بشيء للاعبي اليوم. وأما علاقة هذه النصوص بالرياضة فهي أشد تعقيدًا لأنها تحيل على ذاكرة الأمم والدول، وكانت تقوم على أساس قبلي وديني. وقد لا نجانب الصواب إذا اعتبرنا النشيد الذي يسبق المباراة بمثابة تطور للأهازيج الحربية التي كان يُصدحُ بها قبل المعارك والمبارزات.
ومن ذلك ما اشتهر في جزيرة العرب من مقطوعات تُقَصِّدها نساء يطلق عليهن اسم "العماريات"، وهو نفس ما قامت به هند بنت عتبة حين أنشدت: "نحن بنات طارق" تحريضًا لمقاتلي قريش، وهذا أيضا ما نجده لدى منشدي الإغريق في النص الشهير باسم: Péan والذي صيغ لأبولون.
وهكذا، تعكس الأناشيد التي تفتتح مباريات كرة القدم أبعادًا هامة: كأنَّ عالم اليوم ابتكر شعيرة استهلال المباريات بالنشيد الرسمي بحثًا عن معنى وجودي غائب في زحمة الزمن الاستهلاكي الحديث، وتذكيرا بغائية هذه اللعبة التي باتت تتمثل في شكل جديد من الدفاع عن الوطن والهوية القومية. وهو ما تؤكده سوسيولوجيا كرة القدم بعد أن تطورت مباحثها ضمن العلوم الإنسانية ومنها أعمال عالم الاجتماع الفرنسي Igor Martinache الذي أكد الصلات الوثيقة بين هذه اللعبة وتحولات الهوية. فقد يكون حضور النشيد الوطني تسامياً بـ "تفاهة" الجري وراء "جلدة منتفخة"، كما كان يصفها القصاص التونسي الساخر علي الدوعاجي.