لا يزال الشكل الذي تقترحه معظم المؤسسات الثقافية في الأردن، وغيره من البلدان العربية، لتنظيم جلسة لقراءة كتابٍ أن تحتفي بمؤلّفه من خلال استضافته في أمسية يتحدّث خلالها نقّاد أو كتّاب يقدّمون احتفاء بصاحبه، ويندر الخروج عن هذه القاعدة.
غير أننا في السنوات الأخيرة، بدأنا نلحظ أن فئة من الجمهور اختارت ألا تشارك في هذه الفعاليات وأن تؤثث فضاءً مغايراً وبديلاً، حيث يتساوى الجميع في قيمة ما يبدونه من آراء وملاحظات وينتخبون ما يهمّهم من كتب بإجراء تصويت عليها ضمن نوادي القراءة التي تنتشر في العاصمة خلال السنوات الأخيرة.
رغم أن العديد منها توقّف بعد إنشائه بأشهر أو سنوات مثل "انكتاب" أو "كتاب على طاولة" و"نادي نقش"، أو تتعثّر أنشطته فترة ثم يعود كما حصل مع "نادي 13 تحت الشمس"، إلا أن البعض الآخر لا يزال قائماً، ربما لأن أعضاءه قررّوا الاستفادة من تجارب وأخطاء سابقة مثل الاعتماد على المبادرة الفردية دون عمل جماعي، أو لإبقاء الأنشطة منحصرة بمجموعة من الأصدقاء.
يبدو المشهد في بقية المدن مختلفاً، فلم يكتب الاستمرار لمبادرات عدّة، منها "نادي كتاب 96" الذي أقام فروعه في ثلاث محافظات لكنه توّقف مؤخراً، وكذلك الحال بالنسبة إلى "شرفات" الذي أقيم في إربد؛ ثاني أكبر المدن من حيث عدد السكان، فمعظم المثقفين في هذه الأطراف مقيمون في عمّان ولم يعد لديهم فاعلية تذكر في مدنهم، إلى جانب غياب فضاءات عامة تصلح للقراءة فيها باستثناء الجامعات التي يطلق طلابها نوادي قراءة لا تجد دعماً لها من قبل إدارات جامعاتهم وهم بعيدون عن الإعلام غالباً.
في حديثه لـ"العربي الجديد"، يقول القاص نبيل عبد الكريم "أنا عضو في مجموعة قرائية تأسّست عام 2014 باسم "نزهة الأربعاء" وتجربتي فيها كانت مدهشة من حيث الكم والنوع. إنها طريقة ممتازة لمراكمة الوعي النقدي وتطوير الذائقة الأدبية وامتلاك اللغة القادرة على حمل الأفكار".
يشير عبد الكريم إلى أن "التوافق على العنوان يجري على نحو ديمقراطي، والالتزام بموعد المناقشة المحدّد يملي على القارئ الانضباط الضروري والجدية في القراءة، ثم تأتي المناقشة الحرة بكل ما فيها من متعة وتحدٍ وتجلٍ، قلما تجدها في المناقشات العفوية أو الاعتباطية أو المرتجلة بين صديقين أو أكثر عتماداً على الذاكرة"، كما يلفت إلى أن "الكتاب يكون حاضراً على الطاولة، والملاحظات ساخنة في الذهن، ويمكن للسجال أن يأخذ أبعاداً مُحلّقة بحسب تعدّد الرؤى وزوايا النظر".
يضيف: "المجموعات القرائية تكسر الاحتكار الأكاديمي والمؤسسي والنخبوي لفعل القراءة، وتعزّز سلطة القارئ العادي. وأزعم أن سعادة الكتّاب عندما تُوضع كتبهم على طاولة المجموعات القرائية، تكون أكبر من سعادتهم عندما يكتب عنها أو يناقشها نقّاد متخصّصون".
يتابع قائلاً: "المجموعات القرائية أو أندية القراءة تضمّ قرّاء هواة، من الجنسين ومن مختلف الأعمار، ولا يجمعهم حقل معرفي واحد، ولا مستوى معرفي واحد. هذا التنوع ثريّ إلى أبعد الحدود، إنه يشبه برلماناً يمثل كل الفئات والخلفيات الاجتماعية"، مبيّناً أنه "بفضل استخدام هذه الأندية لمواقع التواصل الاجتماعي، ازداد تأثيرها في المجال العام، وتحوّلت إلى حالة من الحراك الثقافي انعكست إيجابياً على سوق النشر الورقي، وعلى الكتاب كسلعة، وأظن أنها أبعد تأثيراً من الجوائز الأدبية لأنها أكثر مصداقية".
من الكتب التي نوقشت في "نزهة الأربعاء"؛ "الشاهد والمشهود" لـ وليد سيف، و"امراة في الرمال" لـ كونو آبي، و"بقايا نهار" لكازو إيشيغورو، و"صورة دوريان غراي" لـ أوسكار وايلد، و"المتنبي" لـ محمود شاكر، وعدد من روايات نجيب محفوظ.
يختم عبد الكريم حديثه بالقول: "ما يميّز هذه الأندية، أنها تقرأ كتباً قديمة وجديدة، عربية وأجنبية، وفي مختلف المجالات. كأنها تؤسّس لوعي عام يقوم على حرية المعرفة، وتحرير العقل من الوصاية المدرسية والإعلامية، وحقّ الجمهور في اختيار ما يقرأ، ولمن يقرأ".
محمد تيم وعامر عيسى أبو جمل مؤسسا "بيت الحكمة" أوضحا في حديثهما لـ"العربي الجديد" أن مبادرتهما التي أُنشئت في شباط/ فبراير عام 2017، ترمي إلى ما هو أبعد من إقامة حوار حول كتاب، حيث تسعى إلى ترسيخ ثقافة فن الإصغاء من خلال طرح جميع المشاركين لأفكارهم على السطح، فلا تصمد فكرة واحدة منها إلا عبر التفنيد والمحاججة، فقد ولّى عصر الإلزام وإخضاع العقول".
سبعة وعشرون جلسة حوارية أقامها البيت إلى الآن، كان الهمّ الأساس "الانتقال من كوننا كائنات مقلّدة إلى أن نصبح ذواتاً مفكّرة، لا أن نفعل ما يمارسه الآخرون الذين يريدون نقل الناس من خندق إلى خندق ومن أيديولوحيا إلى أيديولوجيا أخرى"، وفق تيم وأبو جمل.
ويلفتان إلى أن الحوار حول أي كتاب أو فكرة ينبغي أن "لا يجامل النسق الثقافي ويكرّر ما هو موجود، وأن لا يستكين إلى المفاهيم السائدة في جميع الاتجاهات، فالإنسان الفاعل هو القادر على التغيير، وهو لا يمتلك الحقيقة بل يحاول الاقتراب منها، وكل ما يصدر عنه هو مقاربات لا حقائق مطلقة".
ومن أجل أن لا يبقى المشروع مرتبطاً بأشخاص، فإنهم تركوه لسبب من الأسباب يُحكم عليه بالانتهاء شأنه شأن الكثير من المبادرات الثقافية، يصرّ تيم وأبو جمل على تقاسم العمل وتوزيع مهامه بين جميع أعضاء الفريق، حيث لا يحتكر أحد تعريفاً أو مقولة حول كاتب أو كتاب ولا في إدارة النقاش حولهما.
تتعدّد اختيارات الكتب التي يطرحها "بيت الحكمة" في جلساته التي تنظّم مرّتين شهرياً في "مؤسسة عبد الحميد شومان"، بين الفلسفة والفكر وعلم النفس والإبستمولوجيا والفيزياء والأديان، ومنها "عالم صوفي" لـ غوستاين غاردنر، و"التفكير العلمي" لـ فؤاد زكريا، و"تاريخ موجز للزمان" لـ ستيفن هوكينغ، و"طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" لـ الكواكبي، و"منطق ابن خلدون" لـ علي الوردي، و"عن الحرية" لـ جون ستيورات مل، و"سر تطوّر الأمم" لـ غوستاف لوبون، و"الكون" لـ كارل ساغان، و"آلام فرتر" لـ غوته، و"الليالي البيضاء" لـ دوستويفسكي.
أما مبادرة "لقاء كتاب" فقد تأسّست عام 2009 على يد أمجد الفيومي وعبد الغني شديد اللذين أرادا "البحث عن أناس تشبههما"، فطرحا إعلاناً على مواقع التواصل الاجتماعي جذب حوالي ثمانية أشخاص ذهبوا بعدها إلى مقهى وتوافقوا منذ لقائهم الأول على اختيار كتاب يجتمع حوله قرّاؤه مرّة شهرياً.
استضافت إدارة مكتبة "الجامعة الأردنية" بعد مضي أشهر المجموعة الناشئة، ما وفّر لها مقرّاً دائماً أتاح قاعة مناسبة وتنظيماً جيداً جذب إليه قراء جددا، لكن مع تعيين إدارة جديدة للمكتبة أُوقف هذا الشكل من التعاون، ما اضطّرهم للبحث عن مكان قد يتغيّر في كلّ جلسة حوارية.
يتوجّه "لقاء كتاب" إلى الإصدارات الأردنية بشكل أساسي، حيث ناقشت كتاب "الإصلاح السياسي في الفكر الإسلامي" لـ محمد أبو رمان، و"القافلة والسراب" لـ إبراهيم غرايبة، و"قارع الأجراس" لـ سامية العطعوط، و"سيدة الخريف" لـ جميلة عمايرة، و"وهن العظم مني" لـ محمد حسن العمري.
يقول الفيومي في حديثه لـ"العربي الجديد" إن "أبرز ما يعترض نوادي القراءة هو توفير فضاء مناسب يمكّنهم من الانتظام، حيث يعوقهم الصخب في بعض المقاهي وإزعاج مرتاديها، كما أن مقاهي أخرى تفرض مبلغاً محدّداً لحجز عدد معين من مقاعدها، الأمر الذي قد يحول دون حضور كثيرين".
يضيف: "لا تتوفّر أيضاً المؤلّفات التي يودّ القراء نقاشها في المكتبات، خاصة تلك التي تُمنع من التداول حين تصنّفها الجهات الرقابية ذات مضامين تسيء إلى معتقدات دينية أو ثوابت وطنية أو تشتمل على محتوى جنسي".
آخر العوائق، بحسب الفيومي، يتمثّل بعدم التفات المؤسسات الثقافية الرسمية والخاصة لهذه النوادي ويرى أن ذلك يؤدي إلى توقّف مبادرات عديدة ظهرت في السنوات الأخيرة، أو تعثّرها بين الحين والآخر.