يتحسّر السوريّون في الداخل على ما أصاب بلدهم من نوائب، ويعزونها إلى حكومات بلدهم، ويقصدون النظام، وهو نوع من التقية، ما يفيد الأطراف كلّها. فالحكومات المتتالية، خلال الحرب، تلقّت فيضاً من الانتقادات والشتائم على جائحة الغلاء المترافقة مع فقدان الليرة قيمتها الشرائية، إضافةً إلى انقطاعات الكهرباء، وفقدان الغاز والمحروقات، عدا رزمة من الأزمات، تبدأ ولا تنتهي. لم تجد الحكومات المتتالية بأساً في حملها على عاتقها، مقابل تمتُّع الوزراء بمناصبهم دونما محاسبة، إذ لا علاقة لهم بهذه الأزمات المستعصية، ما دام النظام سببها، وعلى علم بها، ويستفيد منها.
هذا النمط من الكوارث الدورية، نتاج اعتماد النظام على الحل العسكري، وعدم التخلّي عن أساليبه القمعية في التعامل مع الشعب، آخذاً بالاعتبار عدم التنازل عن صلاحيات الأجهزة الأمنية، أو حتى ضبطها، وهو مستحيل فعلاً، ما دام بقاؤه في الحكم يعتمد على تجاوزاتها المفرطة، يدفع تكاليفَها الوحشية الشعبُ الصابر، الذي صبر على "الرئيس الخالد" من قبل، واعتاد متتاليات الصبر أربعة عقود، ثم طفح الكيل، بعد قدوم الطبيب الحاذق، وسجّلت الخسائر في السنوات الثماني السابقة مئات آلاف الشهداء وملايين النازحين واللاجئين.
هل الظروف كانت تحتّم؟ على كل حال، فات الأوان مذ وضع العسكر العقائديّون نصب أعينهم الاستيلاء على السلطة، فاغتصبوا الدولة بالحديد والنار والتصفيات والاغتيالات والإعدامات... كان من خلال تخطيط ينتهي إلى رجل واحد، فالدكتاتورية لا تقبل بثلاثة ولا باثنين، فما بالنا بمجموعة ضبّاط وحزب عقائدي.
انتهت عهود الانقلابات المائعة، بعدما استتبّت الأمور لـ "الأب القائد" في عهده الميمون استطاع، رغم خسارته كلّ الحروب التي خاضها، وكان من حصيلتها اقتطاع أجزاء من الوطن، مع ترويج أنه استطاع كسب الجدل مع كيسنجر وزير الخارجية الأميركي الأشهر، حسب دعايات النظام، وكأنه انتصار عظيم! واستعاد سلماً بعض ما خسره، ولو كان بشكل رمزي. الأهم أنه أسّس لسورية سمعة الشرطي من خلال مساوماته على القضية الفلسطينية ومناكفاته الأشقاء اللبنانيّين، والتحالف مع الأميركان ضدّ عراق صدّام، وربح منها ما ربح، وكانت في الاعتراف بمكانة سورية دولياً، لكن أية مكانة؟!
ستبلغ الحسرة مداها وأكثر في الربيع العربي الذي انقلب إلى جحيم، وكانت مطالبات السوريّين الأقلّ والأكثر تواضعاً. لو توافرت لديهم الظروف المصرية أو الجزائرية والسودانية من صحافة وأحزاب، ربما لم يعارضوا ويتظاهروا ويهتفوا ويحتجّوا. كذلك الظروف الليبية واليمنية، ربما لأن حماقات القذّافي وصالح الطريفة والسخيفة، تعوّضهم عن الدروس الفوقية للوريث المتذاكي.
كانت مطالب المتظاهرين من البساطة بمكان، لا أكثر من محاسبة رجل أمن تافه اقتلع أظفار أولاد صغار، وعدم إطلاق النار على المظاهرات السلمية، لكن عبثاً، ها هي سورية تحت أربعة احتلالات، ولا ننسى الإسرائيليّين الذين يدخلون ويخرجون، يقصفون متى وأنّى شاؤوا. من يمنعهم؟ لا أحد، حتى الإيرانيّون لا يستطيعون، ولا يجرؤون.
يتسابق المحتلّون إلى نهش هذا البلد الصغير، والاستيلاء على ثرواته، وربطه باتفاقيات تدوم عشرات السنين، بينما رجالات النظام يحوّلون ملايين الدولارات إلى الملاذات الضريبية الآمنة، وبينما الشعب غير آمن، والوطن منهوب. تُرى، ما الذي بقي لنا من بلدنا؟
يتحسّر السوريون على ربيعهم، لأنهم أكثر شعب عانى من جور النظام وأجهزته الأمنية، والمسؤولين اللصوص، والضبّاط الأشاوس العباقرة في تدمير البلد، وعصابات الشبّيحة في إذلال الناس.
يراهن النظام على الزمن، بينما لا يراهن الشعب عليه، فالزمن ليس مفتوحاً للأبد، إنه أقصر مما يعتقد النظام، لا انتظار للثورة، ها هي تسري في العراق ولبنان، إنها لا تزال في بلادنا، لم تغادر.