قبل أيّام قليلة، رحل الكاتب والصحافي وفقيه اللغة الإسباني، رفائيل سانشيز فيرلوسيو (1927 - 2019)، أحد الأسماء البارزة في جيل المؤسّسين لحقبة أدب ما بعد الحرب الأهلية الإسبانية، وهو الجيل الذي انكب على كتابة ملامح إسبانيا الجديدة بواقعية سحرية مأخوذة بالتنظيرات المنحازة للحياة وتأمّلاتها.
امتازت أعماله، وخصوصاً الروائية منها، بالحوارية المتقنة، لدرجة أن النقّاد اعتبروها حوارات روائية قادمة من أجهزة تسجيل، لأنها تتحرّر من البلاغات الأدبية والتشذيب، ويغيب عنها الراوي العليم أو أي تفسير لقيمة أو معنى الأفعال التي تقوم الشخصيات بتقديمها.
يسرد في روايته "مغامرات الفانوي الغريبة" (1951) قصّة طفل غريب الأطوار، طُرد من المدرسة بسبب كتابات غامضة، فيحاول تعويض واقعه الرتيب بسلسلة من المغامرات الغريبة التي تعزله تماماً عن واقعه. الرواية تمزج بين أدب النزهة الإسبانية وتقنيات الواقعية السحرية الأولية، وتغرق بالكثير من التفاصيل الدقيقة البارعة التي تتحدّى ذهن القارئ لتنبؤ ما قد يحصل لاحقاً، وهي التقنية التي أنضجها في روايته الثانية "نهر الخراما" التي صدرت عام 1955.
اعتُبرت الرواية مؤسّسة في أدب ما بعد الحرب الإسبانية المتأثرة بالواقعية الإيطالية الجديدة. وفيها استخدم فيرلوسيو تقنية الراوي الثالث. يحكي العمل قصّة 14 شاباً وشابة ذهبوا في رحلة إلى نهر الخراما في مدريد، وتدور الأحداث حول جماعتين: الأولى تمثّل أعضاء عصابة محلية والثانية شبيبة الرحلة.
تكاد الرواية تخلو من الأحداث بالمجمل، إلا أن مقتل أحد أفراد مجموعة الرحّالة يكاد يزعج انسياب الوصف المسترسل للرحلة والمشاهد الطبيعية والحوارات المتقنة. أراد صاحب "الوسيم ونظائره" (2009) من ذلك أن يُظهر تفوّق الطبيعة وانحيازه لها على حساب سطحية المدن وهشاشتها، لدرجة أنها اعتُبرت إحدى أهمّ روايات أدب الطبيعية والنزهات. يقول فيها: "أنا ذاهب إلى المملكة البيضاء، لأنني هناك، في البياض، أستطيع أن أجد الألوان جميعها".
اكتفى صاحب "الرب والسلاح" بروايتين فقط، لينكبّ بعد ذلك على كتابة مجموعات من القصص القصيرة؛ كان أبرزها "القلب الدافئ" (1961)، و"الأسنان والبارود وفبراير" (1961)، ثمّ غادرها سريعاً إلى المقالات الصحافية المتخصصة على مدار أربعة عقود، وهي المقالات التي سيقوم بجمعها في أربعة مجلدّات أخذت مجموعة من الأسماء منها: "بابل في مواجهة بابل" و"ابنة الحرب وأم الوطن" (2002)، و"الرب والسلاح" (2008)، وأخيراً "عندما يكون السهم في القوس عليك أن تغادر".
ركّزت مقالاته على قضايا الشؤون الدولية والحروب، وهي مواضيع لم تتقوقع في إطار الشأن الإسباني وحسب، بل تجاوزتها إلى الوضع في المنطقة العربية، كحروب العراق، إضافة إلى كتابات نقدية في اللغة، ونقد مفاهيم الوطن والهوية التي تؤسّس لما يمكن تسميته بالعنف البدائي.
لعل أهم كتب فيرلوسيو الفكرية على الإطلاق هو "الآتي من الزمان أسوأ" (1993)، وهو مجموعة من التأمّلات والأطروحات والشذرات الفلسفية، وقد وُصف بأنه عمل يقف في مواجهة مع الأيديولوجيات ومحرّض فعال على التفكير والتأمّل تجاه أكثر الأفكار والقضايا بديهية في الذهن الإنساني. ورغم قيمته المعرفية العالية، إلّا أن رداءة ترجمته العربية حالت دون انتشاره عربياً، وربما ساهمت في محدودية تناوله.
ولعلّ استعصاء فهم الكتاب لا يعود إلى انغلاق أفكاره وغموض فلسفته بل إلى أن الترجمة كانت ركيكة وغارقة في الحرفية في أكثر من موضع؛ إذ نقرأ مثلاً: "التسامح هو اتفاق شرير يتخلّى فيه كل طرف عن الشغف العام لأسبابه الخاصة، ويحوّلها إلى قناعات صلبة لا يمكن اختراقها، أي إلى حقائق محصورة في غيتو مغلق (...) محض سلام غير منسجم بعناد غريب".
وفي مقابل منجزه الهائل على صعيد الرواية والقصة والمقالة وفقه اللغة، لم يسع صاحب "عظمة الفأر" (1986) إلّا أن يصف نفسه في آخر مقابلة أجريت معه بأنه "كان كالريشة الطائرة في الهواء". لعل بلاغة استدعاء الريشة بما تحمله من معاني الهشاشة والتحليق، ليس إلّا محض تشابه مع لغتة التي لطالما وُصفت بالرقّة والخفة والهدوء.