لنتخيل هذا المشهد، دولة تصنف على أنها أكبر منتج للنفط في العالم بطاقة تقترب من 12 مليون برميل يوميا، ويدخل خزانتها العامة ما يقارب 450 مليون دولار مع كل طلعة شمس، ورغم ذلك يصل معدل البطالة بين مواطنيها إلى 12.8%، وترتفع النسبة بين الشباب لأكثر من ضعفي النسبة.
ولنتخيل أن بلداً يمتلك احتياطيات من النقد الأجنبي تتجاوز 500 مليار دولار مودعة في البنوك الغربية، واستثمارات تقدر بمئات المليارات من الدولارات في أميركا، وإيرادات ضخمة من الصادرات النفطية والسياحة والاستثمارات الأجنبية المباشرة، فهل لديه، في هذه الحالة، مبرر واحد لوجود أزمة بطالة فيه، خاصة بين الشباب وخريجي الجامعات، علماً بأن 20% من الاحتياطي الأجنبي الذي يملكه هذا البلد قادر على إقامة مشروعات عملاقة في كل القطاعات تستوعب كل الأيدي العاملة المنضمة لسوق العمل سنويا.
السعودية تمتلك كل هذه الأرقام من النقد الأجنبي وكل هذه الصادرات النفطية، كما تمتلك كل الإمكانيات المادية التي قد تجعل نسب البطالة بها صفراً رغم استقطاب ملايين العمالة من الخارج، لكن الملفت في الأمر هي نسبة البطالة العالية بين المواطنين حسب الأرقام الرسمية التي كشفتها الهيئة العامة للإحصاء السعودية، اليوم الأحد، والتي أكدت أن معدل البطالة لإجمالي السعوديين (15 سنة فأكثر) بلغ 12.8% خلال الربع الثالث من 2018.
والملفت أن الهيئة الحكومية أشارت إلى حدوث تراجع في معدل البطالة خلال الربع الثالث مقارنةً بالربع السابق والبالغ 12.9%، لكن هذا التراجع لم يتجاوز 0.1% على الرغم من حدوث عدة تطورات مهمة في سوق العمل داخل المملكة، تطورات كانت كفيلة بخفض معدل البطالة الرسمي المعلن إلى النصف وربما أكثر.
من بين هذه التطورات ما كشفته بيانات رسمية صادرة عن المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية (حكومية)، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، عن تسريح نحو 1.36 مليون موظف أجنبي من القطاع الخاص فقط منذ مطلع عام 2017 وحتى نهاية سبتمبر/ أيلول 2018، وهو ما يعني مغادرة هؤلاء الموظفين البلاد وإفساح المجال أمام الشباب السعودي الباحث عن فرص عمل، كما تظهر الأرقام أن ما تم تسريحه فقط خلال الربع الثالث من العام 2018 يصل إلى نحو 260 ألف عامل أجنبي، وعليه تراجع عدد الموظفين الأجانب إلى 7.13 ملايين فرد، بنهاية سبتمبر/ أيلول 2018، مقابل 8.49 ملايين في نهاية ديسمبر/ كانون الأول 2016.
كما كشفت إحصاءات أصدرتها المديرية العامة للجوازات السعودية، عن مغادرة أكثر من نصف مليون وافد المملكة خلال عام 2017 وحده، وأن هؤلاء حصلوا على تأشيرات "خروج نهائي".
ومن بين التطورات كذلك قرارات الحكومة المتواصلة بالتوسع في تطبيق سياسة "سعودة" الاقتصاد، كأحد أركان رؤية 2030 التي يتبناها وليّ العهد محمد بن سلمان، من خلال حصر العمل في عشرات المهن والحرف في عدد من القطاعات المهمة بالسعوديين.
مثلا بدأت وزارة العمل والتنمية الاجتماعية السعودية، في الأسبوع الأول من الشهر الجاري تطبيق المرحلة الثالثة من توطين المهن فى منافذ البيع بـ12 نشاطا، وهذه المرحلة تشمل سعودة المهن فى منافذ البيع فى أنشطة محال الأجهزة والمعدات الطبية، ومحلات مواد الإعمار والبناء، ومحلات قطع غيار السيارات، ومحلات السجاد بكافة أنواعه، بالإضافة إلى محلات الحلويات، وأطلقت وزارتا العمل والاتصالات في السعودية، قبل أيام خطة لتوطين 15 ألف وظيفة في قطاع الاتصالات.
ومنتصف الشهر الماضي أعلن وزير العمل والتنمية الاجتماعية السعودي، أحمد الراجحي، قصر العمل في 41 نشاطاً ومهنة في القطاعين السياحي وغير الربحي والأسواق المغلقة، في منطقة المدينة المنورة، على السعوديين فقط.
ورغم مغادرة العمالة الوافدة بسبب ضعف الاقتصاد وزيادة الرسوم وغلاء المعيشة والتشدد في تطبيق سياسة سعودة الوظائف لم تنجح السعودية في خفض نسب البطالة، والدليل الأرقام التي أعلنتها هيئة الإحصاء اليوم والتي تفوق معدلات البطالة في دول عربية عدة لا تمتلك 10% من إنتاج السعودية النفطي، ولا حتى 5% من احتياطي المملكة من النقد الأجنبي، بل قد لا تمتلك هذه الدول نفطاً من الأصل، وربما ما لديها من احتياطي أجنبي يكفي تمويل الواردات بالكاد.