الدولار يرتفع، والمصانع تتعطل، والأسواق تزداد ارتباكا، وقدرات المستهلكين على تحمل الغلاء تتلاشى.. مشاهد تعبر عن عمق الأزمة التي تعانيها مصر في مواجهة الأزمة المالية والاقتصادية، بينما تقف الحكومة عاجزة عن خلق حلول مجدية، بعيداً عن مواصلة السير في دروب الاقتراض وتخفيض قيمة العملة الوطنية، والتي تدفع البلاد نحو قاع من الأزمات غير معلوم المدى.
كسر الدولار حاجزاً جديداً ليصل إلى 24.65 جنيهاً في البنوك، بينما قفز فوق 30 جنيهاً في السوق الموازية (السوداء)، ما فتح أبواباً خلفية للمضاربات طاولت السلع الحيوية والمعمرة (الأجهزة المنزلية) والثمينة وعلى رأسها الذهب، الذي بلغ 1600 جنيه للغرام عيار 21.
في المقابل لا تلوح في الأفق حلول عملية من جانب الحكومة للسيطرة على الأسواق، إذ اكتفت وزارة المالية بإصدار بيان أخير تتوقع فيه اقتراب حصولها على قرض من صندوق النقد الدولي، قيمته 3 مليارات دولار، فضلا عن طرحها أحد البنوك وشركات عامة للبيع في بورصة الأوراق المالية، العام المقبل، لتنفيذ برنامج ثالث مع صندوق النقد، يراه الصندوق ضرورياً لإنقاذ الاقتصاد من المزيد من التدهور، بينما يحذر خبراء اقتصاد من مخاطره إذ يرتكز على تعويم جديد للعملة المصرية ما يعمق من الأضرار التي تشهدها البلاد.
وصف أحمد جلال وزير المالية الأسبق الاتفاق الجديد مع صندوق النقد، بأنه اتفاق التعويم الثالث، مشيرا إلى أنه يرتكز على تعويم سعر صرف الجنيه الذي يتجه نحو "حفرة عميقة لا نرى مداها، ولا الفترة الزمنية التي يمكن أن يتوقف عندها".
وقال جلال لـ"العربي الجديد" على هامش منتدى نظمته الجامعة الأميركية في القاهرة، مساء الأحد، لمناقشة "الإصلاح الهيكلي المصري" إن اعتماد الحكومة على القروض واستخدام سعر الصرف وقيمة الفائدة كاتجاه وحيد لإدارة الاقتصاد، لن يؤدي إلا إلى مزيد من التراجع في قيمة الجنيه، وتدهور الاقتصاد.
وتساءل الوزير الأسبق خلال المناقشات: "كيف تتفق الحكومة على برنامج جديد لتعويم العملة، للمرة الثالثة، خلال 8 سنوات، بينما لدغت من هذا التعويم مرتين؟!"، متوقعا "تعرضها للدغ منه للمرة الثالثة، لأنه يرتكز على نفس الأخطاء التي وقعت بها، من قبل، وأدت إلى تراجع قيمة العملة المصرية، دون أن تحقق أي تقدم اقتصادي يذكر".
وحذر جلال الذي يترأس اللجنة الاقتصادية في "الحوار الوطني" الذي دعت إليه رئاسة الجمهورية منتصف العام الحالي، من " التكلفة الكبيرة التي يمكن أن تحدث مع زيادة معاناة المصريين من الغلاء وارتفاع الأسعار، من عدم استقرار.
وتساءل وزير المالية الأسبق: "ماذا ننتظر من الناس إذا فاض بهم الكيل، لا نريد أن يخرجوا إلى الشوارع، مرة أخرى، لأن العواقب الاقتصادية التي بررت خروجهم عام 2011، تتكرر مرة أخرى".
ودعا الحكومة إلى وقف "الحفر والفجوات" التي تصنعها في الموازنة العامة، بإنشاء كيانات موازية كالصندوق السيادي وقروض الهيئات العامة، التي تنفق أموال الموازنة وتقترض بضمانات حكومية قروضاً تستغل في مشروعات لا عائد من ورائها أو تدر عملة محلية لا قيمة لها، إذا ما قورنت بكميات القروض التي تحصل عليها بالدولار.
وتتعمق مشاكل القطاعات الإنتاجية، إذ عانت الشركات من انكماش ملحوظ في الأعمال خلال نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، بسبب ارتفاع سعر الدولار وتزايد الضغوط التضخمية، وفق بيانات مؤشر مديري المشتريات الصادر عن وكالة ستاندرد آند بورز، أمس.
وانخفض الإنتاج بأعلى معدل منذ مايو/أيار 2020، إذ أدى الهبوط القوي في قيمة الجنيه إلى ارتفاع أسعار الشراء بأقصى معدل منذ أكثر من 4 سنوات. ووفق المؤشر تراجع مؤشر مديري المشتريات على نحو كبير من 47.7 نقطة في أكتوبر/ تشرين الأول إلى 45.4 نقطة في نوفمبر/ تشرين الثاني، لتمتد بذلك سلسلة الانكماش في الاقتصاد غير النفطي إلى عامين. و50 نقطة يفرق بين الانكماش والنمو.
قال وائل النحاس الخبير الاقتصادي لـ"العربي الجديد" إن حالة عدم استقرار الجنيه مقابل الدولار ستستمر، طالما، لم تستطع البنوك توفير احتياجات المصنعين والموردين من العملة الصعبة عبر الطرق الرسمية.
في السياق، توقع هاني جنينة الخبير الاقتصادي والأستاذ في الجامعة الأميركية بالقاهرة، استمرار الضغوط التي تواجه الطلب على الدولار، لحين تنفيذ الاتفاق النهائي مع صندوق النقد الدولي.
وقال جنينة لـ"العربي الجديد" إن "اللجوء إلى سياسية خفض قيمة الجنيه، لم تحدث أي زيادة في الاستثمارات الأجنبية أو الصادرات، وإنما أدت إلى مزيد من التضخم وزيادة الأسعار للسلع".
وأضاف أن الحكومة ما زالت عالقة بين أمرين، الحصول على قروض من صندوق النقد، وطرح سندات في الأسواق الدولية (أدوات اقتراض)، ولم تتخذ أية إجراءات على أرض الواقع، بعيدا عن رفع الفائدة وتخفيض قيمة الجنيه.
وقدرت عالية المهدي عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية السابق، المبالغ المستحقة لخدمة الفوائد والقروض الأجنبية بنحو 26 مليار دولار سنوياً، مشيرة إلى أن توسع الحكومة في الاقتراض من الخارج، تسبب في ضغط كبير على الموازنة والاقتصاد والسير بمعدلات مزعجة، حيث أصبح الدين الخارجي يمثل 71% من اجمالي الديون العامة، أغلبها قصير الأجل.
ونوهت المهدي إلى أن السياسات الحكومة أدت إلى رفع قيمة تكاليف الإنتاج والتشغيل بمعدلات كبيرة، تتوازي مع المعدلات السائدة في دول الخليج، بما أفقد السوق المحلية قدرتها على التنافسية، بالمقارنة بأسواق المنطقة.
وتبدو الحكومة عاجزة عن مواجهة الوضع الحالي، إذ لا ينكر أحمد كوجك، نائب وزير المالية للسياسات والإصلاح المؤسسي، أن خدمة الدين الخارجي أصبحت معضلة ومزعجة، بعد أن تخطت المستويات العالمية التي تتراوح ما بين 20% إلى 30%.
وحذر هشام عز العرب الرئيس السابق للبنك التجاري الدولي - مصر وعضو مجلس إدارته حاليا، من اعتماد الحكومة على سياسة تخفيض العملة، لجذب الاستثمار الأجنبي، مؤكدا أن استمرار هذا التراجع يعطي مؤشرا سلبيا لرجال الأعمال الذين يرغبون في دارسة وتقييم العملة على مشروعاتهم ووضع مؤشر للأعمال، يحددون به مدى قدرتهم على العمل في السوق المحلية، مقارنة بغيرها من الأسواق.
ودعا عز العرب خلال مشاركته في الندوة التي نظمتها الجامعة الأميركية، مساء الأحد، الحكومة إلى ضرورة العمل على سرعة استقرار سعر الصرف، باتخاذ نظم وسياسات واضحة، واستهدف التضخم، دون إدارته عن طريق التحكم في أسعار الصرف والفائدة بمفرديهما.
وحذر من أنه بدون هذا الاستقرار، والسياسات الصارمة والرقابة القوية على الأسواق ستدور المنظومة في دائرة مغلقة.إعفاءات الشقق خلال العشرة أشهر قد بلغت 94 مليون ديناراً، بانخفاضٍ بلغت نسبته 1% مقارنةً بالفترة نفسها من عام 2021،