يواجه اليمن أزمة موارد خانقة. وتقف الحكومة عاجزة أمام تقلص كبير في الإيرادات النقدية المتاحة، ما يحول دون قدرتها على إدارة مؤسسات الدولة في عاصمتها المؤقتة عدن وتأمين رواتب الموظفين، وسط احتجاجات متواصلة في عدد من المدن والمحافظات جنوب البلاد.
وترفع هذه الاحتجاجات المتصاعدة، خاصة في عدن وحضرموت وبصورة أقل في لحج، شعارات منددة بتردي الخدمات العامة خاصة الكهرباء، وتطالب بتحسين الأوضاع المعيشية المتدهورة والانتظام بصرف رواتب الموظفين المدنيين، وزيادة سقف الأجور بما يتناسب مع التضخم المتفاقم وبما يغطي فقدان العملة الوطنية نسبة كبيرة من قيمتها.
ووصلت الاحتجاجات في وقت سابق من الشهر الماضي إلى حد اقتحام جزء من "قصر معاشيق" الرئاسي الذي تتخذه الحكومة مقراً لها منذ عودتها إلى عدن عقب تشكيلها نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي، وعقب ذلك غادر رئيسها معين عبدالملك وعدد من الوزراء عدن إلى الرياض.
ويتهم سياسيون ومقربون من الحكومة، المجلس الانتقالي الجنوبي الممثل بالحكومة وفقاً لاتفاق الرياض، بالوقوف خلف التحركات.
تراجع المداخيل
مطلع الشهر الحالي، أعلن البنك المركزي اليمني أنه مستمر بتأدية مهامه في صرف رواتب موظفي الدولة. لكن الجديد في الإجراءات أنه جعل الصرف مشروطاً هذه المرة بما يصل إليه من موارد وتوافر السيولة. وهناك سبب آخر تم إدراجه في آلية عمل البنك المركزي اليمني، مرتبط بالأوضاع الصحية الاستثنائية المتمثلة في جائحة كورونا، وهو ما جعله يعمد إلى صرف مرتبات وأجور موظفي قطاعات ومرافق الدولة وفق جدول زمني محدد لكل جهة حكومية.
ويقول مسؤول في المركزي اليمني لـ "العربي الجديد" إن "هذه الإجراءات قابلة للتعديل متى اقتضت الضرورة لذلك، وبحسب تدفق الإيرادات إلى البنك". وانخفضت مداخيل اليمنيين بشكل كبير منذ بداية الحرب. ويعاني جزء كبير من الموظفين خصوصاً في صنعاء ومناطق شمال اليمن من توقف رواتبهم منذ نقل البنك المركزي من العاصمة اليمنية صنعاء إلى عدن في سبتمبر/أيلول 2016.
في المقابل، هبطت القيمة الشرائية لرواتب من أعادت الحكومة صرف مستحقاتهم مع انهيار قيمة العملة الوطنية. ويشكو المواطن عارف شفيق من سكان محافظة عدن، انهيار أوضاعه المعيشية إلى حد "لا يطاق"، وفق تعبيره.
ويشرح أنه "لم نعد قادرين على شراء أبسط احتياجاتنا الغذائية أو تعليم أولادنا أو إيجاد عمل". ويضيف لـ"العربي الجديد" أن المشكلة لم تعد تتوقف عند حدود صرف الرواتب أو الانتظام في عملية صرفها بل في تحسينها "فكل الأسعار ترتفع في البلاد إلا الرواتب ثابتة في مكانها".
ويقول الناشط الاجتماعي، وهو من محافظة حضرموت التي تشهد مظاهرات واحتجاجات متواصلة منذ الشهر الماضي، إن الاحتجاجات التي يشهدها الشارع اليمني سلمية. ويلفت لـ"العربي الجديد" إلى أن المحتجين يطالبون بتحسين الأوضاع المعيشية والخدمية خصوصاً الكهرباء التي تؤثر بشكل كبير على المزارعين والفئات العمالية في مختلف المهن.
وكان محافظ حضرموت فرج البحسني قد أعلن في 31 مارس/آذار الماضي حالة الطوارئ وإيقاف مسؤولين في إدارة الأمن في المحافظة التي تسجل مستويات مرتفعة في عدد حالات الإصابة بفيروس كورونا، وذلك غداة مقتل متظاهر وإصابة عدد آخر في إحدى البلدات القريبة من مدينة المكلا عاصمة المحافظة.
صراع نفوذ؟
الباحث الاقتصادي فيصل عبد الغني يفيد في حديث مع "العربي الجديد"، بأن "الحكومة بعد عودتها إلى عدن اكتشفت أن كل شيء في عاصمتها المؤقتة تحت نفوذ وسيطرة شريكها في الحكومة، أي المجلس الانتقالي، والذي عمل على عرقلتها بهدف احتوائها ليكون بمثابة الطرف المهيمن على إدارة الأوضاع من خلف الطاولة" وفق توصيف عبد الغني.
ويؤكد أن سيطرة الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتياً على عدن ومحافظات أخرى في جنوب اليمن أتاحت له الهيمنة على الإيرادات العامة وتكوين اقتصاد خاص به بدأ في التسلل إلى العديد من القطاعات الاقتصادية والتجارية والاستثمارية مثل الاتصالات والعقارات وتجارة الوقود.
ويربط عبد الغني بين معارك مأرب المشتعلة أخيراً وبين الضغوط التي تعرضت لها الحكومة وأدت إلى مغادرتها عدن، "إذ كانت تعمل على محاولة إعادة تصدير النفط والغاز الطبيعي المسال خصوصاً من حقول صافر في مأرب والتي تعد أهم المصادر المتاحة أمامها من حقول النفط والغاز، لكن المواجهات المشتعلة على تخوم المحافظة النفطية بددت كل الخطط الرامية لاستغلال أهم مورد حكومي متاح".
بدوره، يعتبر مسؤول حكومي، رفض الكشف عن هويته، في حديث مع "العربي الجديد"، أن الاحتجاجات مسيسة، "وهي تتخذ من تردي الخدمات وتفاقم الأزمات المعيشية مجرد مطية".
لا ينكر المسؤول الحكومي التدهور الاجتماعي والاقتصادي، إلا أنه يقول إن "على الطرف الآخر الذي يقف خلف تأجيج الأوضاع وتلغيم أجواء العمل في العاصمة المؤقتة عدن، التعاون في إطار الحكومة التي أصبح شريكاً رئيسياً فيها لتذليل كل الصعوبات والمعوقات، وتحسين الخدمات العامة والأوضاع المعيشية في كل المحافظات والمناطق الواقعة تحت نفوذ الحكومة المعترف بها دولياً".
ويلفت هذا المسؤول الحكومي إلى سلسلة من الخطط التي كانت الحكومة تعدّ لتنفيذها قبل تأزّم الأوضاع، منها التعاقد مع شركة صينية لإعادة إصلاح وصيانة مصافي عدن لتكرير المشتقات النفطية "وهي خطوة كانت كفيلة بحل جزء كبير من مشكلة الكهرباء والوقود"، إضافة إلى خطة كان يتم الإعداد لتنفيذها لهيكلة ميناء عدن وتطوير خدماته بصورة تؤدي إلى استغلاله بشكل أفضل، ما يؤدي إلى زيادة إيراداته التي تعاني من التبديد والتشتت.
تفاقم الأزمات
وحذّر أكثر من مسؤول أممي، أخيراً، من تدهور الأوضاع المعيشية لليمنيين في ظل عودة شرسة لفيروس كورونا، حيث لم يعد المزيد من الناس بإمكانهم تحمل تكاليف الطعام أو المواد الأساسية الأخرى، مؤكدين أن نقص الموارد يسرع من تفشي المجاعة وتدهور الأوضاع الإنسانية.
وتطالب المنظمات الدولية بضرورة إيجاد حلول جذرية لمشكلة استيراد الوقود التي تتصدر المشاكل العالقة في المبادرات والتحركات الدبلوماسية التي يقودها أخيراً المبعوث الأميركي إلى اليمن، في الوقت الذي تضاعفت فيه أسعار الوقود مرتين إلى ثلاث مرات في بعض المناطق نتيجة النقص الحاد في الإمدادات، والذي أدى بطبيعة الحال إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية والرعاية الصحية.