"لا تعايرني ولا أعايرك.. الهمّ طايلني وطايلك"، بهذا المثل الشعبي المصري سارع مدافعون عن السياسات الاقتصادية للحكومات والأنظمة الحاكمة في المنطقة بإهالة التراب على الولايات المتحدة وغيرها من الدول صاحبة الاقتصادات القوية، والربط بين المخاطر المالية والأزمات الاقتصادية والمعيشية التي تعاني منها بعض دول المنطقة، وتلك التي يعاني منها الاقتصاد الأميركي، الذي يصنف بأنه الأول والأقوى في العالم، هو وغيره من الاقتصادات الأوروبية والغربية.
بل والزعم، وفق هؤلاء المبررتية، بأن الكل في العالم بات يعاني، اقتصادات وموازنات عامة ومواطنين، وأنه لا يوجد اقتصاد أفضل من الآخر، فإذا كان أقوى اقتصاد في العالم يعاني بشدة كما يقول هؤلاء، فما بالنا بالدول العربية التي تعاني من شح شديد في النقد الأجنبي، واضطرابات في أسواق الصرف، وتآكل متواصل في قيمة العملة المحلية، وقفزات في الأسعار، وضعف في القدرة الشرائية للمواطن وهروب للاستثمارات الأجنبية، سواء كانت مباشرة أو أموالا ساخنة؟
البعض يزعم أنه لا يوجد اقتصاد أفضل من الآخر، فإذا كان أقوى اقتصاد في العالم يعاني بشدة كما يقول هؤلاء، فما بالنا بالدول العربية التي تعاني من أزمات مالية
ومع خروج وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين، قبل أيام بتحذير قوي من إفلاس أميركا الشهر المقبل في حال رفض الكونغرس رفع سقف الدين العام، سارع هؤلاء المدافعون عن السياسات الاقتصادية لحكومات المنطقة بالقول: "إذا كان هذا هو الحال في الولايات المتحدة، فهل نحن أقوى اقتصاديا من أميركا، وهل الحال داخل معظم الدول العربية، وخصوصاً تلك المهددة بالإفلاس والتعثر المالي والتوقف عن سداد ديونها الخارجية لا بد أن يكون أقوى من الاقتصاد الأوربي والأميركي مثلا؟".
بل إن هؤلاء توسعوا في نشر وترويج الأخبار المتعلقة بإفلاس أميركا وتفاقم أزمة المصارف في الولايات المتحدة وأوروبا، والحديث عن مواصلة البنوك المركزية الكبرى سياسة رفع سعر الفائدة، في محاولة لإنقاذ الاقتصادات الغربية من أزمات التضخم والركود والكساد، ومعاناة المواطن مع أسعار السلع والخدمات.
لكن ما تجاهله هؤلاء وغيرهم، أن هناك فارقاً كبيراً بين نوعية أزماتنا المالية وأزمات الدول الغربية، بين نوعية ومخاطر وتبعات إفلاس دولنا ومؤسساتنا المالية والمصرفية، وإفلاسهم، بين معالجتنا للأزمة المالية والاقتصادية وإدارتهم لها، بين إيمانهم بمبدأ الفصل بين السلطات، وتركز القرار الاقتصادي والسلطات المالية في عدد محدود من صناع القرار داخل دولنا.
هناك فارق بين دول غربية تؤمن بالشفافية المطلقة، ولذا تطلع مواطنيها على كل صغيرة وكبيرة حتى تأخذ رأيهم وتشاركهم في صنع القرارات المتعلقة بهم والمؤثرة على مجريات حياتهم، وبين دول تخفي كل شيء حتى لو كانت معلومات وبيانات تتعلق بأحدث الأرقام المتعلقة بالديون والتضخم وغيرها.
الأزمة الحالية داخل الولايات المتحدة تتعلق بعدم موافقة الكونغرس على رفع سقف الدين، وبالتالي عدم إتاحة السيولة الكافية للحكومة التي تمكنها من الإنفاق
هناك فارق بين دول توفر الخدمات الرئيسية للمواطن مثل التعليم والرعاية الصحية بالمجان، ومعاش تقاعد محترم ومواصلات آدمية وسلع بأسعار تناسب دخولهم، ولذا تكشف عن أي تطورات تتعلق بالمركز المالي للدولة، وبين دول يعاني فيها المواطن الأمرَّين للحصول على سرير في مستشفى حكومي ومقعد لابنه في مدرسة عامة وكرسي في مواصلات عامة، وتتعامل على أنه ليس من حق المواطن أن يعرف أي شيء حتى لو كان الأمر يتعلق بمعيشته.
نعم، الكل يعاني، لكن معاناة تفرق عن الأخرى، وإدارة الأزمة والمتاجرة بها تختلف من دولة لأخرى. فإذا كان الحديث قد تزايد عن إفلاس الولايات المتحدة، فإن هذا لا يعني نفاد السيولة لدى الدولة، أو وجود شحّ في الدولار، بل يعني وجود خلاف صحي داخل دوائر الحكم حول الوضع المالي للدولة، وما إذا كان سيتم رفع سقف الدين العام أم لا، وفي حال الرفع ما هي المبررات التي تسوقها الحكومة القائمة؟
كما أن الأزمة الحالية داخل الولايات المتحدة تتعلق بعدم موافقة الكونغرس على رفع سقف الدين العام، وبالتالي عدم إتاحة السيولة الكافية للحكومة التي تمكنها من الإنفاق على أجور موظفي الدولة وتمويل البنية التحتية وتوفير الرعاية الصحية والتعليم، وهذا خلاف سياسي، وليس ندرة في السيولة، أو عدم قدرة الدولة على طباعة النقود واستقطاب الإيرادات الدولارية.
كذلك لدى الدول الغربية مؤسسات ديمقراطية منتخبة، هي التي تتخذ القرار، وعندما يحدث خلاف بين الحكومة والبرلمان، ولو جذرياً، هنا تكون العودة للدستور والقانون والأعراف المطبقة، وبالتالي مهما بلغ حجم المشكلة، فإنها تجد حلاً في النهاية، سواء عبر الصفقات السياسية، أو اللجوء للقانون والمؤسسات النيابية.
في عالمنا العربي، فإن القرار فوقي، وهناك تجاهل لفن إدارة الأزمات ودراسات الجدوى العلمية، وهناك إهدار لأموال الدولة وإصرار على إقامة مشروعات لا تمثل أولوية
أما في عالمنا العربي، فإن القرار فوقي، وهناك تجاهل لفن إدارة الأزمات ودراسات الجدوى العلمية، وهناك إهدار لأموال الدولة وإصرار على إقامة مشروعات لا تمثل أولوية للمواطن والاقتصاد وتجاهل قطاعات إنتاجية، وهناك سفه في الإنفاق الحكومي، وهناك حكومات تتوسع في فرض الضرائب والرسوم دون أن تجد من يحاسبها عن أوجه إنفاق تلك الأموال التي تُجمَع، سواء برلمان، أو جهات رقابية.
الحديث عن إفلاسهم يختلف جذرياً عن إفلاسنا، وخيبتنا الثقيلة تختلف عن خيبتهم المؤقتة، وأزماتهم يجري احتواؤها وحلها في إطار توافق سياسي يستهدف مصلحة المواطن ورعايته وتوفير الخدمات بالدرجة الأولى، لا ملاحقته بمزيد من الأعباء المالية وخطط التقشف وشفط ما بقي في جيبه.