"تكمن القوة في الهدوء".. تلك مقولة صادرة عن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، قبل مغادرتها للمستشارية التي تولّتها على مدى 16 عاماً، لتعكس الطريقة التي تعاطت بها مع الأزمات، خاصة الاقتصادية، من دون خطابات كبيرة.
تُلقب ميركل بـ"الأم" في بلدها التي تمكنت عبر المزاوجة بين البراغماتية والإصرار الهادئ، من الارتقاء ببلدها الذي كان يعد "الرجل المريض لأوروبا" إلى مرتبة "قوة اقتصادية لا يمكن الالتفاف عليها"، بل إن أوروبا تلوذ بها كلما مسّها ضر يفقدها الثقة بنفسها.
عندما وصلت إلى المستشارية في نوفمبر/تشرين الثاني 2005، كان الاقتصاد الألماني يعاني من ركود حاد، وستغادرها بعد الانتخابات العامة، التي جرت أمس الأحد، مخلفة وراءها بلدا يعتبر القوة الصناعية الأولى في أوروبا، ويحتل المركز الرابع بين اقتصاد العالم من حيث الناتج المحلي الإجمالي بعد الولايات المتحدة والصين واليابان.
منذ سنتها الأولى على رأس المستشارية، نهجت سياسة تقوم على إعادة هيكلية الموازنة وتعزيز تنافسية الصناعات، ما أنتج فوائد تجارية ومالية كبيرة. فالفائض التجاري وصل في العام الحالي إلى 220 مليار يورو، والمديونية في حدود 70% من الناتج الإجمالي المحلي، بينما انتقل معدل البطالة من 11% في 2005 إلي 3.2% قبل الأزمة الصحية.
ويعتبر بول موريس، الباحث في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية، أن ميركل استفادت على الصعيد الاقتصادي من الإصلاحات التي قادها سلفها المستشار غيرهارد شرويدر، المتعلقة بسوق العمل والإصلاحات الاجتماعية في الفترة بين 2003 و2005، والتي تعرّض بسببها لانتقادات جراء تقليص حماية العمال، وهو ما أتاح لألمانيا استعادة تنافسيتها على الصعيد العالمي.
عندما ثارت أزمة منطقة اليورو والمأساة اليونانية، تعرضت ميركل لانتقادات المسؤولين الأوروبيين، الذين أخذوا عليها عدم الحسم والتضحية بمبدأ التضامن الأوروبي، متجاهلين هامش المناورة لديها، وأن هناك شركاء لها داخل الدولة ممثلين في التحالف والمحكمة الدستورية والبنك المركزي الأوروبي، حيث كان يمكنها تجاوز القيود القانونية للتحرك، كما أن الأزمة المالية في منطقة اليورو عززت الثقة في ألمانيا التي بدت أنها حامية لهم ولأموالهم، وفق المؤرخ الألماني رالف بولمان في كتابه "أنجيلا ميركل.. المستشارة وعصرها".
ميلها للتكيف مع الوضعيات الجديدة وبراغماتيتها، ساعداها على عبور الأزمات التي شهدتها أوروبا والعالم بالكثير من الثقة. هذا ما يتجلى مع أزمة كورونا الصحية التي أبدت فيها مرونة كبيرة في التعاطي مع بعض الثوابت المالية في بلدها.
لم تتردد في التخفف من قواعد السياسة المالية لبلدها عندما حلت الأزمة الصحية. فقد اعتبرت قاعدة "صفر عجز" غير قابلة للمراجعة إلى درجة تضمينها في دستور البلد الأوروبي، غير أنه عندما تراءت للحكومة الألمانية آثار الأزمة الصحية على الاقتصاد، لم تتردد في الإنفاق بدون حساب من أجل إعادة إحياء الآلة الاقتصادية.
عندما مست تداعيات كورونا الاقتصاديات الأوروبية، بادرت ميركل إلى التأكيد على أن "هذه الأزمة هي الأسوأ في تاريخ الاتحاد الأوروبي"، وبينما انتظر الجميع التدابير التي سيتخذها الاتحاد الأوروبي من أجل الإنقاذ، تطلع الكثيرون إلى دعم ميركل للخطة التي وضعتها المفوضية الأوروبية، والتي رمت إلى توفير 750 مليار يورو للدول الأعضاء، جرى توزيعها بين مساعدات وقروض.
سعت ميركل إلى إقناع مواطنيها بخطة الإقناع وفاوضت الدول المصنفة ضمن "نادي البخلاء" بقيادة هولندا، بهدف تليين موقفها من مسألة دعم دول جنوب أوروبا. ولم تكن في مسعاها ذاك تهدف فقط إلى إنقاذ أوروبا المتضررة من الأزمة، بل إنها كانت تراهن على إنعاش اقتصاد بلدها الذي يبقى رهينا بتعافي اقتصاد البلدان الأوروبية.
يقول بول موريس إنها لم تقم بالكثير في مجال السياسة الأوروبية "لكننا سنتذكر، أنها اقترحت بمعية إيمانويل ماكرون (الرئيس الفرنسي)، خطة للإنعاش الأوروبي، وهذا سيكون جزءا من إرثها"، بينما يتطلع الكثيرون اليوم إلى ما بعد المستشارة الألمانية، التي كان أسلوبها في إدارة الأزمات باعثا على الطمأنينة والثقة حتى خارج ألمانيا.