تسابق دول الاتحاد الأوروبي الزمن لمواجهة أزمة طاقة طاحنة لم تنجح دعوات خفض الاستهلاك وتنويع مصادر الإمدادات في خفض حدتها. أزمة تسبب فيها الغزو الروسي لأوكرانيا، ونتج عنها حدوث قفزات غير مسبوقة في أسعار منتجات الطاقة وندرة كبيرة في الغاز الطبيعي في جميع أنحاء أوروبا.
ولأنها أزمة غير مسبوقة فقد اندفعت معظم الحكومات لتخصيص مئات المليارات من اليوروهات لحماية الأسر من قفزات في تكاليف المعيشة، خاصة فواتير التدفئة والكهرباء والمواصلات وأسعار الوقود من بنزين وسولار وغاز طبيعي، وكذا حماية المرافق والمؤسسات والهيئات العامة من أعباء الزيادة الضخمة.
ومع تفاقم أزمة الطاقة يوما بعد يوم، بات من الصعب حصر الأموال الضخمة التي تنفقها أوروبا أو ترصدها لمواجهة تداعياتها الكارثية نظرا لضخامتها وأحيانا صعوبة تصديق تلك الأرقام.
ومن وقت لآخر نسمع عن رصد حكومات أوروبية المليارات لمساعدة الأسر على مواجهة ارتفاع أسعار الطاقة، والذي بات يضغط بشدة على تكاليف الحياة واستهلاك الأسر وحركة الأسواق والاستثمار في الأصول، بل ويهدد بدخول منطقة اليورو في حالة ركود اقتصادي غير مسبوق.
اندفعت معظم الحكومات لتخصيص مئات المليارات من اليوروهات لحماية الأسر من قفزات في تكاليف المعيشة، خاصة فواتير التدفئة والكهرباء
المفوضية الأوروبية بدأت خططًا لجمع أكثر من 140 مليار دولار لمواجهة أزمة الطاقة، التي رفعت احتمالات نقص المعروض بشدة مع توقف الغاز الروسي وخفض استهلاك الوقود خلال فصل الشتاء وإفلاس الشركات والمصانع ودخول المنطقة في ركود اقتصادي.
أمس تم الإعلان عن تجهيز حكومة إيطاليا حزمة مساعدات جديدة بقيمة 13.5 مليار دولار لمواجهة ارتفاع أسعار الطاقة والوقود وتخفيف وطأة الزيادة المستمرة عن العائلات والشركات. الحكومة قررت أيضا تمديد الإعفاءات الضريبية لكلّ من الشركات والمواطنين وإمكانية دفع فواتير الطاقة على أقساط.
لا يعد المبلغ هو الأول من نوعه فقد سبق للحكومة إنفاق أكثر من 50 مليار يورو حتى الآن لخفض الأسعار وتنشيط الاقتصاد وحمايته من الانزلاق نحو الفوضى المالية والتعثر والركود وربما الإفلاس، وقد تكون هناك حاجة إلى تقديم المزيد من المساعدات قريباً خاصة مع التهديدات العنيفة التي تواجه الأسرة والاقتصاد في إيطاليا.
وقدمت النمسا مساعدات للأسر بنحو 1.9 مليار دولار لمساعدتها على التعامل مع ارتفاع تكاليف الطاقة، علما أن الدولة تأثرت بشدة بالأزمة حيث تحصل على نحو 80% من غازها الطبيعي من روسيا.
من المتوقع أن تتواصل التكاليف المالية الباهظة مع إصرار الطرفين، روسيا والغرب، على موقفهما تجاه التعامل مع النفط والغاز على أنهما ملف سياسي
وأنفقت اليونان نحو 8 مليارات دولار لدعم فواتير الكهرباء منذ العام الماضي، كما أعلنت الحكومة، قبل أيام، أنها تجهز مزيدًا من حزم المساعدات النقدية لتخفيف تأثير أزمة الطاقة وارتفاع التضخم على الأسر في البلاد.
أما المانيا، قاعدة الصناعة الأوروبية، فقد تحركت سريعا لمواجهة أزمة الطاقة خاصة وأنها المتضرر الأول منها أوروبيا وربما عالميا، فالاقتصاد الألماني قد يخسر أكثر من 265 مليار دولار في القيمة المضافة بحلول العام 2030، بسبب ارتفاع أسعار الطاقة واستمرار الحرب في أوكرانيا. وفي ظل سيناريو تضاعف زيادة أسعار الطاقة، من المتوقع أن يتقلص التوظيف في ألمانيا بواقع 660 ألف شخص بعد 3 سنوات.
على مستوى تحركات مواجهة الأزمة، وافقت الحكومة الألمانية على ثلاث خطط دعم بقيمة إجمالية تبلغ 95.4 مليار دولار، لكبح جماح ارتفاع أسعار الطاقة التي شهدت ارتفاعا بنسبة تزيد عن 160% حتى الآن. كما تخطط لتخفيف مؤقت لقواعد الإفلاس، للمساعدة في الحفاظ على عمل الشركات التي تعاني من تصاعد الديون بفعل ارتفاع تكاليف الطاقة.
يتكرر مشهد تقديم حزم المساعدات الضخمة للأسر المتضررة من زيادة أسعار الطاقة في بريطانيا وفرنسا وإسبانيا وغيرها من دول القارة، ومن المتوقع أن تتواصل تلك التكاليف المالية الباهظة مع إصرار الطرفين، روسيا والغرب، على موقفهما تجاه التعامل مع النفط والغاز على أنهما ملف سياسي بالدرجة الأولى وإقحامهما في أزمة حرب أوكرانيا.
ببساطة، نزيف أوروبا المالي يتواصل، ومع استمرار حرب أوكرانيا وتصاعد وتيرة العقوبات الغربية وتفعيل خطة الاستغناء عن النفط والغاز الروسيين فإن اقتصاد القارة ليس فقط على موعد مع الركود، ولكن مع انفجار فقاعات عنيفة واندلاع ثورات واحتجاجات قوية وواسعة في وجه حكومات القارة، قد تغير معادلة أنظمة الحكم بالقارة العجوز.