بحلول السابع من شهر إبريل/ نيسان الحالي، انقضت سنة كاملة بالتمام والكمال على توقيع الاتفاق على مستوى الموظّفين بين بعثة صندوق النقد الدولي والحكومة اللبنانيّة. وكما هو معلوم، نصّ الاتفاق على ثمانية شروط مسبقة، كان من المفترض أن يقوم بها لبنان، للوصول إلى مرحلة الاتفاق النهائي مع الصندوق، والدخول في برنامج قرض معه.
هذا مع الإشارة إلى أنّ تنفيذ هذه الشروط المسبقة لم يكن ليمثّل وحدهُ حلاً كاملاً للأزمة الماليّة اللبنانيّة، لكنّه كان، من وجهة نظر الصندوق، كفيلاً بإطلاق مسار الحل، الذي سيحتاج إنجازه لسنوات طويلة.
قبل أسبوعين بالضبط من الذكرى السنويّة لتوقيع هذا التفاهم، أي في 23 مارس/ آذار الماضي، كانت بعثة صندوق النقد تجول في العاصمة بيروت، لتفقّد تقدّم لبنان في تنفيذ الشروط الثمانية.
وفي ختام الجولة، أكّدت البعثة المؤكّد والواضح للجميع: كان من المتوقّع أن ينجز لبنان ما هو أكثر بكثير على مستوى التشريعات، والخطوات التي نصّ عليها التفاهم على مستوى الموظّفين، مع الإشارة إلى أنّ المسؤولين اللبنانيين وعدوا قبل سنة بإنجاز الشروط المسبقة خلال فترة شهر واحد من الزمن فقط، فيما لم ينجز لبنان حتّى اللحظة أيّاً من الشروط الثمانية بشكل كامل.
من الناحية العمليّة، يمكن القول إنّ مسؤوليّة عرقلة تنفيذ الشروط الثمانية تتوزّع على جميع الأطراف المعنيّة بتطبيق خطّة التعافي المالي، التي اتُّفِق عليها مع الصندوق، وهي تحديداً الحكومة والمصرف المركزي والمجلس النيابي.
فتنفيذ الشرط المتعلّق بتعديل قانون سريّة المصارف، وتقليص نطاق السريّة المصرفيّة في القانون، بقي معلّقاً بفعل المناورات التي جرت في المجلس النيابي.
وكان المجلس قد أقرّ هذه التعديلات في الشكل، لكن بصيغة مفخخة لم تمنح صلاحيّات رفع السريّة المصرفيّة للجهات الرقابيّة في المصرف المركزي، وهو ما يحول دون إطلاع هذه الجهات على البيانات المصرفيّة المطلوبة للشروع بعمليّة إعادة هيكلة القطاع المصرفي.
ومن الواضح أن خوف الطبقة السياسيّة اللبنانيّة من رفع السريّة المصرفيّة يرتبط بمصالح بعض كبار النافذين في البلاد، الذين استفادوا من ستار تلك السريّة لإخفاء ثرواتهم غير المشروعة.
وبينما طلب صندوق النقد تدقيق ميزانيّات أكبر 14 مصرفاً، لم يبدأ هذا التدقيق حتّى اليوم، لأسباب تتصل بثغرات تعديلات قانون السريّة المصرفيّة، وعدم إمكانيّة رفع السريّة المصرفيّة لإجراء هذا التدقيق.
كذلك لم يُنشَر التدقيق في ميزانيّات المصرف المركزي حتّى اللحظة، الذي يفترض أن يكشف للسلطة التنفيذيّة وضعيّة المصرف الماليّة والحجم الدقيق للخسائر في ميزانيّته.
وفي الوقت نفسه، لم يبدأ المجلس النيابي بعد بالمناقشة الجديّة للقانون الطارئ لإعادة هيكلة القطاع المصرفي، الذي يجب أن يؤمّن الأدوات التشريعيّة المطلوبة لإعادة الانتظام في القطاع المصرفي.
ومن خلال مواقف الكتل النيابيّة الأساسيّة، بدا واضحاً أنّ التلكّؤ في تنفيذ هذا الشرط يرتبط بامتعاض الكتل النيابيّة من معايير إعادة الهيكلة التي اتُّفِق عليها مع الصندوق، وتحديداً لجهة طلب الصندوق الحد من استعمال الأصول والأموال العامّة في عمليّة إعادة رسملة المصارف، وتحميل الرساميل المصرفيّة الشريحة الأولى من الخسائر.
ولم يُنفَّذ شرط الصندوق المرتبط بتوحيد أسعار الصرف من جانب مصرف لبنان، إذ تستمر المصارف بالاستفادة من أسعار الصرف المتعددة لتسديد الودائع المدولرة بالليرة اللبنانيّة، وبأسعار صرف منخفضة للغاية مقارنة بسعر السوق الموازية.
أمّا موازنة عام 2022 التي طلب إقرارها الصندوق، فكانت مليئة بالافتراضات غير الواقعيّة، بينما استندت الموازنة إلى غابة من أسعار الصرف المتعددة لاحتساب الضرائب والرسوم، بخلاف مندرجات التفاهم مع الصندوق.
وحتّى اللحظة، لم تنفّذ الحكومة مطلب الصندوق المرتبط بوضع خطّة متوسّطة الأجل لإعادة هيكلة الدين العام اللبناني. ومن دون هذه الخطّة، سيكون متعذّراً وضع أي استراتيجيّة فعليّة لإعادة هيكلة القطاع المصرفي، نظراً لانكشاف ميزانيّات المصارف على الدين العام.
ومن المعلوم أنّ الحكومة لم تبدأ حتّى بالمفاوضات التمهيديّة مع الدائنين، رغم مرور ثلاث سنوات على تعليق سداد سندات اليوروبوند، ما يعني أن الوصول إلى تصوّر لكيفيّة إعادة هيكلة الدين العام ما زال بعيد المنال.
في النتيجة، يصبح من المفهوم إشارة بعثة الصندوق إلى تباطؤ لبنان في تنفيذ الشروط الثمانية، التي اتُّفِق عليها قبل سنة. كذلك تصبح مفهومة التحذيرات التي وجهها الصندوق إلى لبنان، والتي توقّعت "أزمة قد لا تنتهي" و"عواقب لا رجعة فيها"، في حال استمرار المراوحة ومضي البلاد في حالة الانهيار دون خطّة واضحة للمعالجة.
أمّا الأهم، فهو إشارة الصندوق إلى أنّ اللبنانيين باتوا أمام "منعطف صعب"، إذ ستُقبل البلاد على مرحلة سماتها الأساسيّة تنامي معدلات الفقر والتضخّم المفرط، وتحلّل مؤسسات الدولة، إذا لم يسلك لبنان قريباً طريق التعافي المالي.
كل ما جرى خلال الأشهر الماضية، يعيد التأكيد أنّ لبنان لن يصل إلى مرحلة الاتفاق النهائي مع الصندوق على المدى المتوسّط، وأنّ ثمّة عراقيل محليّة كبيرة تحول دون انسجام الإجراءات الرسميّة مع شروط الحل التي يطلبها الصندوق.
والفشل في الامتثال لخطّة صندوق النقد لا يتصل بالإجراءات القاسية والمؤلمة معيشياً، كما هو الحال في معظم تجارب الصندوق، بل بمعارضة الطبقة السياسيّة للإجراءات التي يمكن أن تمسّ بمصالح النخبة النافذة سياسياً ومالياً في البلاد.
وهذه المصالح مرتبطة بشكل خاص بمسائل حسّاسة مثل رساميل المصارف، وكشف السريّة المصرفيّة وإجراء التصحيحات الجذريّة في الميزانيّة العامّة.
لكل هذه الأسباب، وحتّى في حال إنهاء الشغور القائم في منصب رئاسة الجمهوريّة، وتشكيل حكومة مكتملة الصلاحيّات بدل حكومة تصريف الأعمال الحاليّة، لا يوجد ما يضمن تذليل العقبات المحليّة التي عرقلت تنفيذ شروط الصندوق منذ إبريل/نيسان 2022، ما دامت المصالح التي دفعت باتجاه العرقلة لم تتغيّر.
في المقابل، لا يبدو أن بعثة الصندوق مستعدّة حتّى اللحظة لإبداء أي مرونة في شروطها الصارمة، وخصوصاً تلك المتصلة بضرورة ارتكاز إعادة هيكلة المصارف على تدقيق شامل في الميزانيّات، وعلى فهم دقيق لأسباب الخسائر المتراكمة.
كذلك لا يبدي الصندوق الكثير من المرونة تجاه رفضه لفكرة تخصيص المال العام أو أصول الدولة لإطفاء الخسائر المصرفيّة، نظراً لخشيته من أثر ذلك على استدامة الدين العام. وهذا ما سيعني تعليق مسار التفاهم بين لبنان والصندوق إلى أجل غير مسمّى.
مشكلة لبنان لا تكمن فقط في تعثّر مسار التفاهم مع صندوق النقد، إذ يمكن للدول أن تطمح إلى وضع معالجات وحلول ماليّة واقتصاديّة دون المرور بصندوق النقد الدولي.
المشكلة الأهم، أنّ الدولة اللبنانيّة لا تملك أي تصوّر أو خطّة بديلة في الوقت الراهن، بعدما تقاعست طوال السنوات الماضية عن وضع أي خطّة جديّة أخرى.
وهذا ما سيعني أنّ البديل من صندوق النقد لن يكون سوى الاستمرار في حالة السقوط الحرّ، التي يشهدها لبنان منذ ثلاث سنوات ونيّف.
وأخيراً، مع تأخّر الدولة اللبنانيّة في سلوك المسار المتفق عليه مع صندوق النقد، من المرتقب أن يزداد تشدد الصندوق في مفاوضاته مع الدولة اللبنانيّة. فالأزمات الاقتصاديّة التي تعصف بالعديد من الدول النامية، رفعت الطلب على برامج تمويل الصندوق، كذلك قلّلت من اهتمام المؤسسات الماليّة الدوليّة بتفاصيل الأزمة الماليّة اللبنانيّة.
أمّا الأهم، فهو أن عدم جديّة الجانب اللبناني في التعامل مع الشروط التصحيحيّة التي اتُّفِق عليها، سيزيد من شكوك إدارة صندوق النقد بالتزام السلطة اللبنانيّة بأي خطط اقتصاديّة يمكن الاتفاق عليها في المستقبل، ما سيدفع الصندوق إلى فرض شروط أصعب على لبنان.