مرة أخرى تبدو الصورة شبه رمادية على مستوى مستقبل الاقتصاد العربي والعالمي في المستقبل القريب على الأقل، في ظل موجات من الحروب والفوضى وتنامي المخاطر الجيوسياسية وتغيرات المناخ الحادة واختناقات قنوات الشحن وسلاسل التوريد واضطرابات التشغيل في الممرات المائية، ومنها باب المندب وخليج هرمز وقناتا السويس وبنما.
عالمياً، تبدو الصورة أقرب للسوداوية، فبعد أن توقع الكثيرون أن يكون 2024 هو عام التقاط الأنفاس وبدء انطلاقة جديدة تشهد عودة الانتعاش للاقتصادات الكبرى، وحدوث زيادات في معدلات النمو، وخلق فرص عمل أكثر، وانقشاع موجة التضخم وهدوء قفزات الأسعار، بات الواقع يشي بغير ذلك.
جائحة كورونا تطل برأسها من جديد لتحصد في شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي نحو 10 آلاف حالة وفاة بالفيروس، وفق أرقام منظمة الصحة العالمية التي حذرت من أن كوفيد 19 لا يزال يشكل تهديدا كبيرا، وأن نسبة انتقال العدوى ارتفع بشدة، ومع تلك التحذيرات الجدية عادت دعوات الأفراد إلى تلقّي اللقاح وإجراء اختبار الكشف عن الفيروس ووضع كمامات والتأكد من تهوية الأماكن الداخلية المزدحمة بشكل جيد.
وبعيدا عن تطورات الجائحة لم تتعاف بعد اقتصادات الدول الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة والصين وألمانيا، ولا تزال تعاني من تداعيات سياسات التشدد النقدي ورفع سعر الفائدة والجائحة وحرب أوكرانيا ثم حرب غزة.
وبعد أن كانت المؤسسات المالية الدولية، ومنها صندوق النقد الدولي، في حال تفاؤل حذر، عادت لتخفض توقعاتها لنمو الاقتصاد العالمي في 2024، وتقر بصعوبة التعافي السريع.
البنوك المركزية الكبرى نفسها باتت في حال ارتباك شديدة، بعد أن ظنت أن الأوقات الصعبة قد مرت، وأنه حان الوقت لرسم صورة متفائلة للاقتصاد العالمي، وباتت الصورة ضبابية أمام راسمي السياسات النقدية والمالية والاقتصادية حول العالم، فلا شيء واضحا في ظل غموض وحالة لا يقين، ولا أرقام ثابتة يمكن على أساسها وضع خطط واتخاذ قرارات تخالف تلك المتخذة منذ 3 سنوات، ولا تعرف تلك البنوك هل ستعطي إشارة البدء لخفض سعر الفائدة بعد موجة زيادات قياسية لم تحدث منذ 40 سنة، أم تتأنى لحين اتضاح الرؤية.
حرب الممرات البحرية في منطقة الشرق الأوسط أعادت هي أيضا خلط الأوراق، وبدأ العالم يتحدث عن زيادات متوقعة في الأسعار وعودة التضخم للزيادة
حرب الممرات البحرية في منطقة الشرق الأوسط أعادت هي أيضا خلط الأوراق، وبدأ العالم يتحدث عن زيادات متوقعة في الأسعار وعودة التضخم للزيادة، مع المواجهات بين القوات الأميركية والبريطانية وجماعة الحوثي في منطقة البحر الأحمر، وزيادة كلفة الشحن حول العالم وتعقد سلاسل التوريد وعزوف السفن والشاحنات العملاقة عن المرور عبر باب المندب مفضلة رأس الرجاء الصالح.
حرب غزة والإجرام الذي يمارسه جيش الاحتلال ضد أهالي غزة، وحديث قادة الاحتلال عن حرب طويلة خلط الأوراق أيضا، وكان له انعكاسات سلبية، ليس فقط على اقتصاد دولة الاحتلال واقتصاد قطاع غزة، بل امتدت التأثيرات لما هو أبعد من ذلك، خاصة وأن احتمالات توسيع رقعة الحرب في منطقة الشرق الأوسط لا تزال قائمة، رغم الحرص الأميركي والأوروبي على تحجيمها.
عربياً، لا تزال اقتصادات دول المنطقة رهنا لأسعار النفط المتقلبة، والمفاوضات مع الدائنين الدوليين للحصول على قروض جديدة، ولا تزال حالات الإفلاس والتعثر تهدد بعض الاقتصادات العربية، في ظل تراجع إيرادات النقد الأجنبي، وتبعات التوسع المفرط في الاقتراض الخارجي، وزيادة أعباء الديون الخارجية.
في ظل تلك الخريطة المعقدة، باتت الحكومات في مأزق، ومعها المواطن الذي سيتحمل وحده تكلفة تبعات المخاطر الخارجية وفشل السياسات المحلية المطبقة، خاصة المتعلقة بإدارة المال العام.