ما زلت أتذكر شعوري بالأسى والغضب والترقب عندما قطعت جسر الملك الحسين من الضفة الشرقية لنهر الأردن عبوراً إلى الضفة الغربية. ولما وصلت إلى منتصف الجسر، كان هناك خط مرسوم على قطعة خشبية يفصل بين الأرض المحتلة والأردن. وقد عبرتُ ذلك الجسر عشرات المرات سابقاً ولم ألحظ ذلك الخط الفاصل بين الاحتلال والحرية، وفوجئت بأحد الجنود يقودني إلى خيمة تقع في نهاية الجسر.
سألني: أين تعمل، فقلت: أعمل في البنك المركزي الأردني. قال: كم عمرك؟ فقلت: خمسة وعشرون عاماً. سأل: ما سبب مجيئك إلى جوديا وسماريا؟ قلت: لم أفهم السؤال؟ وبعد لأي قلت: الدنيا عيد الأضحى، وأريد أن أمضي فترة العيد مع أقاربي، ولم أذكر له أنني كنت داخلاً عند بيت خالي ووالد خطيبتي آنذاك. قال: كم عرض النقد في الأردن؟ قلت: لا أدري؟ فتعجب وسأل: وكيف لا تعرف والرقم منشور في النشرة الإحصائية للبنك؟
قلت: لا أدري. الآن تسألني لأجيبك عن سؤال جوابه منشور، ثم ستبدأ بالسؤال عن غير المنشور. نظر إليّ نظرة متفحصة وقال: اذهب. لما ركبت سيارة الأجرة غربي النهر للانتقال إلى مدينة حلحول مسقط رأسي قال لي السائق: سمعنا على الأخبار قبل قليل أن رئيس وزراء العدو ليفي أشكول قد مات بجلطة قلبية. كان ذلك يوم السادس والعشرين من شهر شباط (فبراير) من عام 1969، أو بعد سنة وتسعة أشهر تقريباً من حرب 1967.
وصممت حينها أن أدخل من القدس إلى الشاطئ الفلسطيني مع خالي في سيارته التي تحمل نمرة إسرائيلية لأنه من سكان القدس. وعند وصولنا قرب يافا فوجئنا بدورية إسرائيلية توقفنا وتسأل عن تصريحي للدخول إلى ما سماه الضابط الإسرائيلي "اريتز إسرائيل". ولم أكن أحمل سوى الترخيص الذي دخلت به إلى محافظة الخليل. فأخذوني إلى مركز بوليس في مدينة يافا، وحققوا معي لمدة خمس ساعات، ثم أمروا بتوقيفي في سجن "أبو كبير" على البحر المتوسط، وبينما أنا في الزنزانة، أتوا بثلاثة شبان تراوح أعمارهم بين السابعة عشرة والتاسعة عشرة. وعرفت أنهم من غزة أتوا إلى يافا قبل تصريحهم بيوم من أجل العمل في قطف البرتقال.
وعرفوني على أنفسهم وهو يضحكون: "الأخ مستجد؟"، فقلت لهم: لم أفهم. فازدادوا ضحكاً. وقال أحدهم: "احنا متعودين على السجن ولا يهمك بكره بطلعوا أهلك كفالة وبتروح". لقد كان الشبان من غزة نموراً، سألوني: "هل تغديتم؟"، قلت: ومن يريد أن يأكل؟ قالوا: "نحن". وصاروا يصيحون: "شاتير... شاتير يا ملعون الوالدين… هات غدانا". وعند العشاء جاء رجل البوليس (الشرطي أو الشاتير بالعبري) وهو يحمل صينية كبيرة عليها صحون في كل واحد منها نصف بيضة وفلقة خبز "فينو" وكأس شاي صغيرة. وجذبه الشبان الثلاثة إلى بوابة الزنزانة، وخطفوا كلّ الصحون التي على الصينية، وأكلوها قبل أن تفتح الشرطة الباب.
أعترف أن روحهم انتقلت إليّ، ولا أنسى يوم جاء خالي بكفالتي بعد يوم ونصف، وودعتهم كأنني أعرفهم من سنين خلت، فضحكوا معي وقالوا: "ما تخاف إحنا لاحقينك بعد يومين ثلاثة". كان الوداع صعباً علي، ورغم قصر المدة التي عرفتهم فيها. وقد مضى على تلك الحكاية أكثر من أربعة وخمسين عاماً، لكنّ صورتهم ووجوههم ما زالت محفورة في عمق ذاكرتي.
كان الاقتصاد الغزي يشهد تقلبات في تلك السنوات. لكن، شهد معدلات نمو عالية عامي 2007 و2008 وصل النمو فيها إلى أكثر من 25%. وشهدت غزة حركة بناء وعمران واسعة، وبرزت فيها صناعات أسرية متوسطة وصغيرة. لكنها بقيت معتمدة على المواد الأولية والنفط اللذين يستوردان من إسرائيل من خلال معبر كرم سالم. وفي عام 2011، بدأ القطاع يشهد تراجعاً كبيراً في اقتصاده.
ولا شك أن أهل غزة قد أثبتوا أنهم يتمتعون بقدرة هائلة على التكيف مع متطلبات الحياة. ومن منا ينسى اقتصاد الأنفاق التي ربطت بين حدود القطاع والأراضي المصرية. وقد استطاع هؤلاء أن يحفروا أكثر من ألف نفق من مختلف الأحجام والمقاييس لعبور صناديق الفاكهة والحاويات وحتى الشاحنات. وصارت هذه التجارة كبيرة بعشرات الملايين. ذلك الاقتصاد "تحت الأرضي" كانت البضائع تنتقل فيه بيسر وسهولة بدون اعتمادات مستندية، وتأمين، وكفالة النوع. فكيف تمكنوا من ذلك كله؟
ولم يتوقف اقتصاد الأنفاق على التبادل التجاري مع مصر، بل مع إسرائيل أيضاً. وقد اكتشفت إسرائيل عشرات الأنفاق في أراضيها. وإذا كان هناك مبرر في الدنيا لتهريب البضائع عبر الحدود بدون دفع جمارك أو الحصول على رخص فهو مع إسرائيل بصفتها القوة القائمة بالحصار في ذلك الوقت.
لكنّ هذه القصة وهذا النموذج من الاقتصاد الخفي غير الرسمي لم يكتب له أن يعمر طويلاً. فقد رأت فيه الإدارة المصرية تشجيعاً للجهات المتطرفة لممارسة الإرهاب. فقامت بتدمير تلك الأنفاق وإغراقها بالمياه. وقامت إسرائيل بدورها بالبحث والتقصي عن الأنفاق في أراضيها وقامت بجرفها وإغراقها بالرمل والحصى.
وما زالت غزة تحت سيطرة حركة حماس، والتي خاضت خمس معارك دامية مع إسرائيل أدى بعضها إلى لجوء ربع سكان إسرائيل إلى الملاجئ، ولكن القصف الإسرائيلي المستخدِم لكل الأسلحة الجوية والمدفعية والصاروخية والليزرية وحتى الطائرات بلا طيار قد أدى إلى دمار إثر دمار. ولكن شعب أهل غزة على نُدرة المال لديه، وقسوة الحال، لا ييأس بل يعيد البناء.
والقوة الناعمة في غزة ومدنها لا تقف عند الصمود والإصرار وإعادة البناء، بل تمتد إلى تقديم الأمثلة الرائعة على تشجيع النابغين، وبروز الكفاءات الرفيعة في مجالات الطب، والكمبيوتر، والميكانيك، وإنتاج الصواريخ والطائرات بلا طيار، والفن والموسيقى.
ولقد أثبت أهل غزة خارج قطاع غزة وأينما عملوا في الأردن أو مصر أو دول الخليج، أو إذا عملوا في الغرب أو دول المشرق أنهم مؤمنون صابرون لا يملون من السعي الدؤوب للنجاح تجارياً وإدارياً وصناعياً وعملاً حكومياً وتجارة وصناعة. وهناك في الأردن رأسمال غزي كبير لا يستهان به. وكم قابلت من شبان رائعين من أهل غزة في دول الخليج كانوا مثالاً للإخلاص في العمل لمن وظفوهم من أبناء الخليج، أو أصبحوا أطباء مبدعين، وأساتذة ومعلمين ومهندسين وفنيين. ويشكل هؤلاء جميعاً رافداً مهماً لأهلهم الصابرين على أبشع أنواع الحصار.
لا يهمني من الذي يحكم في غزة، ولكن يهمني أن يدرك الجميع أن في هذا القطاع قوة خلاقة كامنة، لو اطلق لها العنان لتحولت إلى هونغ كونغ أو سنغافورة. لقد كانت غزة قبل عام 1967، ومنذ العهد العثماني، مدينة تضج بالحياة، وفيها زراعة البرتقال والليمون والتوت (ستروبري) والزيتون والجوافة. وكانت هي وقراها (مثل المغار وغيرها) بساتين غناء يانعة. وكان أهلها يصنعون، ويصيدون السمك ويسافرون عبر ميناء غزة إلى العالم.
غزة تعاني الآن من نسبة بطالة تصل إلى أربعين في المائة، ومن ندرة المساعدات العربية والأجنبية، ومن الاغلاقات المستمرة، ومن الحصار والمضايقات التي يتعرض لها الصيادون، ومن نقص المياه، والنفط، وتلف المجاري والبناء السكني، وضيق فرص الاستيراد والتصدير ومن الفقر المدقع، ومن تراجع خدمات الأونروا.
ومع هذا تبقى روحهم بعد كل التدمير الذي تعرضوا له عالية شامخة. أغمضوا أعينكم معي لبرهة شاردة، تخيلوا لو توفرت الإمكانات لهذا الشعب لمدة سنة أو سنتين، وسمح لهم ببناء مطار وميناء، وأتيحت لهم فرصة إعادة البناء وترميم البنى التحتية، فماذا نراهم فاعلين؟ أنا أراهن أن قيمة دونم الأرض (ألف متر مربع) على الساحل لن تقل عن 20 مليون دولار.
يجب أن يكون شرطنا في أي اتفاق مع إسرائيل في المستقبل هو رفع الحصار الكامل عن غزة، والتصرف معها كأنها منطقة اقتصادية واعدة. وسوف يكسب الجميع. تخيلوا لو أن أبناء وبنات غزة منحوا فرصة التعليم على الذكاء الاصطناعي، والرقمنة، والهندسة الإلكترونية والتجارة الإلكترونية، وسلاسل التزويد العالمية. سنرى حينها منهم العجب العجاب.