تقول حكمة شهيرة إن "وراء كل ثروة عظيمة جريمة كبيرة"، تُنسب أحياناً للفيلسوف الإنكليزي فرانسيس بيكون، وأحياناً أخرى للروائي الفرنسي أونرويه دي بلزاك، وهي حكمة غالباً ما تصدّق عليها الوقائع، كما يصدّق المنطق على معكوسها المنطقي بأن "وراء كل جريمة كبيرة صراع على ثروة عظيمة".
وهذا ما بدأت تكشفه المعلومات المتداولة عن احتياطيات غاز غزة كأحد دوافع الكيان الصهيوني لتهجير سكانه، والاستحواذ على ثرواته، خصوصاً أنها احتياطيات معروفة منذ أكثر من عقدين، لكنها بقيت مُجمدة دونما استخدام، رغم اكتشافها قبل حقول الغاز المصرية والإسرائيلية، لسبب واضح جداً.
فقد اكتشفت مجموعة الغاز البريطانية BG حقول غزة البحرية أواخر التسعينيات، ولم يُستفَد منها على الإطلاق ولا حتى بدأت مشروعات تطويرها، رغم أنها "لا تمثّل تحدياً تقنياً على الإطلاق" على حد وصف ظافر ملحم رئيس سلطة الطاقة الفلسطينية، وذلك رغم معاناة غزة من نقص إمدادات الطاقة، واعتمادها على الإمدادات من إسرائيل بنسبة تصل إلى 60% من احتياجاتها.
ومن المُفترض أن هذه الحقول تعود إلى الفلسطينيين، وفقاً للقانون الدولي، خصوصاً مع تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة على حق الفلسطينيين في السيادة الدائمة على الموارد الطبيعية بأراضيهم، وحقهم في التعويض العادل حال قامت إسرائيل باستغلال تلك الموارد بأيّة طريقة، وعدم قانونية أي تعاملات على هذه الموارد في الأسواق الدولية، وإن كانت سلسلة الاتفاقات التي عُقدت ما بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل عام 1999 نصّت على عدم تطوير هذه الحقول سوى بموافقة الأخيرة، رغم إقرارها بأحقية الأولى الكاملة فيها.
اكتشفت مجموعة الغاز البريطانية BG حقول غزة البحرية أواخر التسعينيات، ولم يُستفَد منها على الإطلاق ولا حتى بدأت مشروعات تطويرها، رغم أنها "لا تمثّل تحدياً تقنياً على الإطلاق
ولعل هذا مما يفسّر تجميد الاستثمار في هذه الحقول؛ فإسرائيل لا تستطيع الاستفادة منها بشكل قانوني لا يثير المشاكل (رغم محاولتها ذلك مع حقول لبنان بما وصل بالأمور لحد التهديدات الصريحة من حزب الله، والاضطرار لاتفاقية لترسيم الحدود البحرية)، فيما لا تريد في الوقت نفسه أن تذهب عوائد استخراج الغاز منه إلى الفلسطينيين وسلطتهم، خصوصاً بعد استلام حماس السلطة في غزة.
تلك العوائد التي لا تقتصر على العوائد المادية التي قد تحسّن أحوال الفلسطينيين، وتكفل قدراً من الاستقلالية المالية والإدارية للمؤسسات الفلسطينية، بل قد تخلق كذلك مكاسب معنوية تشمل مصالح متبادلة وعلاقات دولية للفلسطينيين، تعزّز موقفهم السياسي في مواجهة إسرائيل، وتساهم بالضرورة في الدفع لإعلان الدولة الفلسطينية عاجلاً أو آجلاً.
يمثل ذلك أيضاً جزءاً من خلفية الحرب الجارية اليوم في غزة، ومحاولات إسرائيل تحويلها لأرض محروقة قاحلة لا تصلح للحياة؛ لإجبار سكانها على تركها سعياً وراء الماء والخبز لا أكثر، والتي تتكامل مع الدعوات الوقحة لتهجير الفلسطينيين إلى مصر والأردن وأي مكان، المهم أن تُترك غزة وغازها لإسرائيل، إن لم يكن للاستفادة المباشرة منه، فعلى الأقل لحرمان الفلسطينيين مما قد يوفّره لهم من ملاءة مالية وعلاقات دولية؛ وربما كنتيجة منطقية عتاد مادي وعسكري إن وقعت عوائده في الأيدي الصحيحة.
لكن هل احتياطيات غاز غزة مُغرية إلى هذا الحد؟
الواقع أنه لا يمكن الجزم بمدى ما تمثلّه احتياطيات حقول غزة من إغراء مادي؛ بالنظر للتفاوت الشديد في تقديراتها، حيث تتراوح ما بين 32 مليار متر مكعب في المصادر الغربية (كقناة دويتشه فيله الألمانية)، وما يتجاوز 300 مليار متر مكعب في المصادر العربية (كمجلة نفط وغاز مصر)، وهو تفاوت شديد الضخامة لدرجة تثير الشك بحد ذاتها.
لكن حتى بالتقدير المتحفّظ، الذي لا يمثل سوى احتياطيات قليلة جداً بقيمة إجمالية مبدئية تصل بالكاد إلى ثمانية مليارات دولار (حسب صندوق الاستثمار الفلسطيني)، فإنها تظل مهمة ومؤثرة بالنسبة لاقتصاد صغير مختنق بشدة كالاقتصاد الفلسطيني، إلى حدّ وصفها في تقرير لمنظمة مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) عام 2019 بقدرتها على إنجاز الكثير على صعيد معالجة الفقر بالمنطقة.
ورغم تواتر الأدلة على رغبة إسرائيل بسرقة هذه الاحتياطيات، كمحاولتها إعلان سيادتها على منطقة حقول غزة في ديسمبر 2008، فإنه حتى بفرض إصابتها بحالة قناعة مفاجئة، يظل مهماً لإسرائيل منع أو على الأقل تقييد كمّ وكيف استفادة الفلسطينيين منها، وهو ما يفسّر الشروط التقييدية بالاتفاقات المذكورة مع السلطة الفلسطينية، واستمرارها في منعهم من الاستفادة منها طوال ما يقرب من ربع قرن.
لهذا فحتى إن كان حجم هذه الاحتياطيات، وفقاً للتقديرات المتحفظة، غير كاف بذاته لتفسير حرب التجريف العرقي الجارية في غزة، فإنه يظل أحد عناصر تفسيرها، من زاوية منع الاستفادة المذكورة على الأقل (ولو باستنزاف تلك العوائد مقدماً في عملية إعادة الإعمار الحتمية).
علماً بأن الاستفادة المباشرة لإسرائيل غير مُستبعدة لاعتبارات سياسية، كما اقتصادية، خصوصاً مع اهتمام إسرائيل منذ أكثر منذ عشرة أعوام بالتحوّل لمركز إمداد طاقة إقليمي -من المرتبة الثانية بالطبع- بالشرق الأوسط، والذي تعزّز خصوصاً بعد الحرب الروسية الأوكرانية، مُستهدفة أوروبا بالأساس من ناحية العلاقات الاقتصادية، وبعض دول الشرق الأوسط كمصر، كجزء من استراتيجية التطبيع الاقتصادي، سياسية الدوافع بالأساس، يتكامل مع ذلك اشتراط إسرائيل مرور خط أنابيب الغاز الناقل لمخرجات الحقل عبر أراضيها؛ لتستمر بالتحكم بإمدادات الغاز من خلاله، فضلاً عن مطالبتها بشراء الغاز من السلطة الفلسطينية بأقل من أسعار السوق بكثير.
إحياء خطط الاستثمار في الحقول مؤخراً قد أتى بضغوط أميركية ومصرية؛ أساساً بسبب أزمة الغاز، بعد العقوبات على روسيا، وجزئياً ضمن سياق المصالح المصرية الخاصة بتشغيل محطات الغاز المُسال
كما أن إحياء خطط الاستثمار في الحقول مؤخراً قد أتى بضغوط أميركية ومصرية؛ أساساً بسبب أزمة الغاز، بعد العقوبات على روسيا، وجزئياً ضمن سياق المصالح المصرية الخاصة بتشغيل محطات الغاز المُسال والتبادل التجاري الطاقيّ بين البلدين عموماً، مع معلومات متداولة بتقديم ضمانات بمشاركة مصرية في كيفية توزيع وإدارة حصة السلطة الفلسطينية من عوائد استغلال الحقل؛ للتأكد من توجيهها للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية بالأساس؛ بما يهدئ مخاوف إسرائيل من وصولها إلى حماس.
وفي تقرير لإيلاي ريتيج وبيني سبانيير، صدر في يوليو الماضي عن مركز بيغن-السادات للدراسات السياسية والاستراتيجية، التابع لجامعة بار إيلان الإسرائيلية والمدعوم من مبادرة الناتو لمنطقة البحر المتوسط، ذكر الباحثان عدداً من الأسباب المحتملة لموافقة إسرائيل على تطوير الحقل، لكن كان أولها وأبرزها هو كون الموافقة جزءاً من اشتراطات لأطراف أخرى ضمن مشاريع أكبر، وتحديداً اشتراطات سعودية لتطبيع العلاقات، واشتراطات تركية لتطوير مزيد من علاقات تبادل الطاقة.
ويؤكد الباحثان أنه لا يمكن فصل هذه الموافقة عن اتفاقية العام الماضي بترسيم الحدود البحرية مع لبنان، مما يدخل جميعه ضمن استراتيجية إقليمية للسلام الاقتصادي، أي السلام القائم على المصالح الاقتصادية المشتركة، أو ما وصفاه بمذهب "خلق المصلحة الذاتية" Something to lose doctrine، ومما يسهل ذلك في رأيهما الحالة الاقتصادية شديدة السوء لكل من لبنان وفلسطين؛ ما قد ييسر استغلالهما في توسيع نطاق العلاقات الاقتصادية لإسرائيل مع أطراف أخرى أهم في المنطقة.
مشاريع التمركز الإقليمي والتطبيع الاقتصادي
يتضافر ذلك مع محاولات إسرائيل التمركز في مشاريع التكامل التجاري الإقليمية الأكبر، عبر منطقة جنوب غرب آسيا وشرق المتوسط عموماً، خصوصاً مشروع الممر الهندي الأوروبي الذي أطلقته الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في مواجهة مبادرة الحزام والطريق الصينية، والذي احتفى به رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو واصفاً إياه بأنه "التعاون الأكبر في تاريخ إسرائيل"، الذي "سيحوّل إسرائيل إلى مفرق رئيسي في هذا الممر الاقتصادي"؛ ومن ثم "يغيّر ملامح المنطقة"، ولا شك أن القضية الفلسطينية والتوترات الإسرائيلية العربية تمثل عقبات حقيقية في طريق تنفيذه، فيما تمثل مشاريع التطبيع المطروحة وسائل للقفز على هذه العقبات، وجزءاً أصيلاً من المشروع نفسه.
وهذا هو المشروع الحقيقي الأكبر لإسرائيل؛ فتمركزها ضمن مشروع له هذه الصبغة العالمية يضمن لها مزيداً من الاندماج الاقتصادي الإقليمي (ومن ثم السلام والأمن لاحتلالها)، كما يعزّز مكانتها الدولية واستدامتها الاقتصادية (بالسيطرة على موارد تعزّز أهميتها الاستراتيجية وملاءتها المالية)، وهكذا يكون ضرورياً تصفية جميع نقاط التوتّر القريبة من خطوط التجارة المُستهدفة، لضمان مزيد من الأمن والاستقرار لرأس المال الجبان بطبيعته، أو على الأقل إبعادها لمسافة آمنة عن تلك الخطوط.
يفسّر هذا دعاوى التهجير الإجرامية التي تخالف كل قواعد القانون الدولي والإنساني، كما يأتي في هذا السياق استهداف القضاء على حركات المقاومة، وعلى رأسها حماس؛ فتفريغ غزة وتصفية حماس أهداف اقتصادية مثلما هي سياسية، لكن ليس لأجل الغاز بالأساس، بل للهدف الأكبر، وهو التمركز الإقليمي والعالمي، ضمن الممر الغربي المناهض للمبادرة الصينية.
فهذا التمركز ضمن مشروع جيواقتصادي عالمي، والذي يمثل استمراراً لمنطق الحركة الصهيونية في الالتحاق بالمشاريع الاستعمارية منذ نشأتها، هو ما يضمن لإسرائيل تعزيز أمنها عبر توسيع نطاق تطبيعها السياسي واندماجها الاقتصادي في المنطقة العربية، خصوصاً اقتصاداتها الأكبر في الخليج، كما يعزّز استدامتها الاقتصادية، ويزيد أهميتها الاستراتيجية للاقتصادات الكبرى، خصوصاً في أوروبا الغربية.
هذه هي الأهداف العامة، لكن تختلف سيناريوهات التنفيذ، حسب معطيات الصراع على الأرض، وهنا يبرز الخلاف الأميركي الإسرائيلي، فبينما يغلب على المواقف الأميركية والعربية الميل لحل الإشكالية، عبر سلام أكثر عدالة مع الفلسطينيين، تغلب على الموقف الصهيوني الرغبة في حل الموقف جذرياً بالكامل لصالح إسرائيل، وانتهاز فرصة الصراع الحالي؛ لتحقيق أقصى منافع ممكنة اقتصادياً (بالسيطرة على موارد الغاز بشرق المتوسط كاملة)، واستراتيجياً (بإنهاء أي بؤر توتر محتملة قُرب مراكزها الحضرية)، والذي لا تراه ممكناً سوى بتفريغ غزة -والضفة الغربية المحتلة إن أمكن- وتصفية المقاومة نهائياً.
ويبدو أن ضغوط اللوبي الصهيوني قد نجحت في إجبار الإدارة الأميركية، الميّالة بطبيعتها للانحياز لإسرائيل، على إعطاء الأخيرة الفرصة الكاملة، لمحاولة إنجاز المهمة على طريقتها كسيناريو أول، يلجأ بعده الجميع مُجبراً للسيناريو الثاني، الذي لا يمثل الحل الأمثل من منظور إسرائيل، لكنه يناسب الولايات المتحدة التي لا ترغب بتدهور علاقاتها بالمنطقة، والأكثر ثقة بقدرتها على إدارة الموقف سلمياً، خصوصاً في سياق صراعها الأكبر مع التغلغل الصيني في المنطقة العربية.