طالما هناك تضخم مرتفع فلا بد أن تقابله زيادة في الأجور والرواتب ودخل المواطن، هذه قاعدة اقتصادية متعارف عليها، فالتضخم يعني زيادة في أسعار السلع والخدمات.
لا تقتصر تلك الزيادة على أسعار السلع المتداولة في الأسواق والمحال التجارية، بل تمتد أيضا لكلفة الخدمات وفواتير النفع العام، مثل المياه والكهرباء والغاز المنزلي والمواصلات العامة والاتصالات، وحتى الدروس الخصوصية وأجرة الأطباء والمحامين وغيرهم، كما تمتد بالطبع لأسعار الوقود بكل أنواعه سواء بنزين أو سولار.
والتضخم المرتفع يتطلب زيادة في إنفاق الأسر، وإلا تسبب في تدحرج ملايين الأسر المستورة والمنتمين للطبقة الوسطى إلى دائرة الفقر وربما الفقر المدقع والعوز.
ولكي تعالج الحكومات هذه السلبيات لا بد أن تقوم بزيادة دخل المواطن وتحسينه، إما عن طريق اجراء زيادة مباشرة في الرواتب والأجور، أو تقديم مساعدات نقدية مباشرة للأسر المتضررة من زيادة الأسعار، كما يحدث الآن في العديد من دول العالم، أو خفض الضرائب والرسوم الحكومية وغيرها من التكاليف التي ترهق المواطن وتستنزف السيولة المحدودة التي بحوزته.
رأينا ذلك في الولايات المتحدة، حيث يستعد الموظفون هذه الأيام للحصول على أكبر زيادة في الأجور منذ عام 2008، كما قدمت الحكومة الأميركية مساعدات نقدية مباشرة للأسر منذ تفشي وباء كورونا، إضافة لمساعدات البطالة وغيرها.
وكذا حدث في منطقة اليورو، حيث تقدم مساعدات مباشرة لمساعدة الأسر على سداد فواتير الكهرباء والغاز المرتفعة هذه الأيام.
وفي ألمانيا، اتفقت نقابات عمالية وأصحاب العمل قبل أيام على زيادة أجور موظفي الخدمة العامة، كما تم الاتفاق أيضا على منح مكافأة خاصة للموظفين العموميين متعلقة بأعباء كورونا، معفاة من الضرائب والرسوم، بقيمة 1300 يورو.
كما أعلنت الحكومة التركية عن رفع الحد الأدنى للأجور إلى مستوى أعلى بكثير من المعتاد في الأيام القادمة، قائلة إن هناك زيادة قادمة لرواتب الأطباء الاختصاصيين قدرها 5 آلاف ليرة، وللأطباء العامين 2500 ليرة (الدولار نحو 13.5 ليرة).
الحكومات ستكون مجبرة على زيادة الرواتب والحد الأدنى للأجور خلال الفترة المقبلة، وإلا ستواجه بموجات إضرابات وتظاهرات قد تؤثر سلباً على المشهد الاقتصادي برمته، كما حدث مع تظاهرات السترات البيضاء في فرنسا.
وفي كل الأحوال، فإن زيادة الأجور أفضل للحكومات من بزوغ ظواهر اقتصادية أخرى خطيرة قد تنشأ في حال التلكؤ عن اتخاذ خطوة مماثلة، منها حدوث ركود تضخمي في الأسواق مع مقاطعة المستهلك للمنتجات التي ترتفع أسعارها، وإغلاق آلاف المصانع وتشريد العمالة بها، وإفلاس شركات وتراجع الإيرادات الضريبية، وظهور شركات توظيف الأموال، وزيادة منسوب الجرائم المالية في المجتمع، مثل النصب والاحتيال والفساد والرشى، والأخطر الضغط على سوق العملة، حيث يهرب المدخرون نحو حيازة العملات الأجنبية للحفاظ على ما تبقى من مدخراتهم وتفادي تأثيرات التضخم الخطيرة.
هناك حكومات ستتهرب من استحقاق زيادة الأجور بحجة زيادة الدين العام وعجز الموازنة العامة وتراجع إيرادات الدولة بسبب تداعيات كورونا، وزيادة الالتزامات المالية المترتبة على الموازنة بسبب ارتفاع أسعار الوقود والسلع الغذائية وغيرها من السلع الاستراتيجية المستوردة، مثل القمح والزيوت والسكر وغيرها من المواد الغذائية.
لكن هذه الحجة واهية ووجهة نظر قاصرة، فزيادة الأجور تعني ضخ سيولة طازجة في الأسواق، وهذه السيولة تخلق طلبا على منتجات المصانع والشركات الإنتاجية، وهو ما يجعلها تحافظ على إنتاجها وصادراتها وعمالتها، كما تحافظ على التزاماتها سواء مع البنوك أو الضرائب أو التأمينات وسداد مستحقاتها في الموعد المحدد، والأهم تغطية هذه المصانع لاحتياجات السوق المحلية. كما أن زيادة الأجور تلعب دورا غير مباشر في استقرار العملة المحلية وعدم الذهاب إلى تعويمها في حال زيادة معدل الدولرة في المجتمع.
زيادة رواتب القطاع العام والحد الأدنى للأجور غير كافية لمواجهة ظاهرة التضخم الحالية، ولن تمنع بالطبع وقوع أزمات معيشية وغلاء في الأسعار طالما استمرت زيادة أسعار البضائع والخدمات، خاصة الأغذية والطاقة من نفط وغاز، وبالتالي فإن الحكومات مطالبة باتخاذ خطوات أخرى وسياسات سريعة لاحتواء التضخم المرتفع، مثل خفض ضريبة القيمة المضافة التي تعد سببا أساسياً في زيادة الأسعار، ورفع سعر الفائدة على العملة المحلية، مع سحب السيولة النقدية الزائدة من الأسواق لأنها حطب التضخم، وتقوية العملة عبر زيادة إيرادات النقد الأجنبي، وتوفير السلع في الأسواق بسعر مناسب، ومواجهة الاحتكارات وفرض ضرائب أعلى على ثروات الأثرياء.