اجتمع ازدهار زائف ودين متعاظم ثم سنوات من التقشف قبل 20 سنة للتسبب بواحدة من أكبر الأزمات في تاريخ الأرجنتين. وتركت الاضطرابات الاجتماعية اللاحقة ندوباً ما زالت آثارها ظاهرة.
كانت المشاهد درامية: أشخاص يهشمون واجهات مصارف، وآخرون ينهبون متاجر ومتظاهرون يسقطون برصاص الشرطة، ورئيس يهرب بطائرة هليكوبتر.
في عام 2001، كان الأرجنتينيون ما زالوا يؤمنون بمعدل التحويل "واحد مقابل واحد" بين البيزو والدولار الأميركي، الذي تم تبنيه خلال عهد الرئيس الأرجنتيني المحافظ كارلوس منعم (1989-1999) للسيطرة على التضخم. استمرت التجربة عقداً قبل الانهيار.
كان ذلك في وقت كانت دول أميركا اللاتينية تنطلق نحو الأسواق المفتوحة النيوليبرالية والخصخصة والديون الثقيلة. كانت الطبقات الوسطى تشتري سلعاً مستوردة بعملة البيزو المبالغ في قيمتها. لكن الصناعة المحلية انهارت ونما عجز الميزانية وتتالت خطط التقشف وفقد المستثمرون الثقة.
أدى ذلك إلى هروب رؤوس الأموال وأزمة نقدية، ما دفع الدولة، في ديسمبر/كانون الأول 2001، إلى التحرك لمنع انهيار النظام المصرفي. أمرت الحكومة بتجميد الودائع المصرفية وتحديد السحوب النقدية بـ250 بيزو في الأسبوع. وفي ما أصبح يعرف باسم "كوراليتو" (مهد الأطفال)، ثار غضب العديد من الأرجنتينيين، فيما جاع آخرون.
"عليهم الرحيل جميعهم!"
ازدادت الاحتجاجات وعمليات النهب، ليعلن الرئيس فرناندو دي لا روا حالة حصار، في خطوة ذكّرت المواطنين بسنوات الديكتاتورية، وصبت الزيت على النار.
ليلة 19 ديسمبر/كانون الأول، توجّه الآلاف إلى ساحة "بلازا دي مايو" حيث يقبع البرلمان، وبدأوا القرع على الأواني في احتجاج غاضب لم تهدئه حتى استقالة وزير المال. ورددت الحشود "عليهم الرحيل جميعهم!".
شكّل ذلك الشرارة التي أطلقت العنان للشرطة لتفريق المتظاهرين بعنف، ما أدى إلى مقتل 40 شخصاً وإصابة المئات في كل أنحاء البلاد. مساء 20 ديسمبر/كانون الأول، استقال دي لا روا، وفرّ من القصر الرئاسي بهليكوبتر.
استمر خلفه أدولفو رودريغيز سا أسبوعاً فقط في السلطة، لكن كان لديه الوقت لإصدار أكبر تخلّف عن السداد في التاريخ: 100 مليار دولار. شاهد العديد من الأرجنتينيين مدخراتهم تتبخّر.
استذكر الممثل ريكاردو دارين باكياً كيف بقيت والدته الراحلة "حتى أيامها الأخيرة، تسألني عما إذا كانت هناك فرصة لاسترداد الأموال التي خسرتها في المصرف" عام 2001.
في النهاية، قرر أن يكذب عليها وأخبرها بأنّ "المحامين يتابعون القضية، وهم يقولون إنّ ذلك ممكناً. لو رأيتم اللمعة في عينيها...".
تبعات اجتماعية
وجدت دراسة رائدة في طب القلب أنه في الفترة من إبريل/نيسان 1999 إلى ديسمبر/كانون الأول 2002، كان هناك 20 ألف حالة توقف قلبية قاتلة في الأرجنتين أكثر من العادة، ويعود ذلك جزئياً إلى الإجهاد، لكن أيضاً بسبب تدهور النظام الصحي.
وقال المؤرخ فيليبي بينيا، لوكالة "فرانس برس"، إنه بعد عشرين عاماً، هناك "ذاكرة دموية مؤلمة".
وأضاف "الخوف من الاضطراب الاجتماعي ومن فقدان المدخرات. إنه شبح يظهر مجدداً في وقت الأزمات، في المواقف الحساسة. ليس بالضرورة من الناحية العقلانية، لكن من الناحية العاطفية".
في العام 2001، شعر الأرجنتينيون بأنهم "أيتام، تخلت عنهم الدولة والأحزاب والمصارف".
لكنّهم في ذلك الوقت اتحدوا وتولوا زمام الأمور بأنفسهم، فنظموا "تعاونيات مساعدة ومطابخ حساء في الأحياء، واجتماعات عامة لإيجاد حلول للمشكلات اليومية". وأضاف بينيا أنّ ذلك كان بداية إعادة إعمار "مستقلة".
بدأ التعافي بانخفاض مؤلم لقيمة العملة وإعادة هيكلة ضخمة للديون، تم التفاوض عليها خلال عهد الرئيس الأرجنتيني نيستور كيرشنر (2003-2007).
وفي بلد وصلت فيه نسبة الفقر إلى 40%، يبقى شك كبير حول أي شيء متعلق بالديون.
تقشعر أبدان الأرجنتينيين بمجرد ذكر كلمات مثل "التخلف عن السداد" أو "التصحيح"، خصوصاً منذ رتب الرئيس السابق ماوريسيو ماكري قرضاً بقيمة 44 مليار دولار مع صندوق النقد الدولي في العام 2018. وقال بينيا "السياق الدولي في العام 2021 مختلف، مثل موقف صندوق النقد الدولي".
ولكن حتى وإن كان الرئيس الحالي ألبرتو فرنانديز يصر على أنّ "تصحيحات الأرجنتين صارت من الماضي"، في محاولته إعادة التفاوض بشأن ديون صندوق النقد الدولي، يبقى المواطنون متوترين.
في نوفمبر/تشرين الثاني، تسبب خبر كاذب يفيد بأنّ الحكومة تعد "كوراليتو" جديداً بسحب مئات الملايين من الدولارات من المصارف في غضون أيام.
(فرانس برس)