سبّب وباء كورونا الجديد اضطراب الإنتاج الزراعي وزيادة أسعار الغذاء على مستوى العالم، وفاقم معضلة الانكماش الاقتصادي وارتفاع معدلات البطالة، ما أضرّ بدخل الأسر في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل، وكان لذلك الأثر المباشر في تراجع كمية الأغذية ونوعيتها التي كانت الأسر تعتاد استهلاكها قبل الجائحة.
وفي دولنا العربية، تراجعت خلال العام الماضي دخول الأسر العربية لمستويات لم تعد تسمح بالوفاء باحتياجاتها الأساسية من الغذاء بسبب الجائحة مع تقصير الحكومات أو عجزها عن القيام بدورها في تعويض الأسر المنكوبة.
وحذر تقرير شاركت في إعداده منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسف" ومنظمة الأغذية والزراعة "فاو" وبرنامج الأغذية العالمي، ومنظمة الصحة العالمية (جميعها تابعة للأمم المتحدة) من أنّ الوباء وما يرتبط به من زيادات في الفقر وأسعار الغذاء وتعطل سلسلة التوريد، يهدد النجاح الذي أحرزه العالم في السنوات الأخيرة في مكافحة انعدام الأمن الغذائي. وهناك ما يصل إلى 130 مليون شخص إضافي على مستوى العالم معرضين الآن لخطر انعدام الأمن الغذائي الحاد، مع تأثر الأمهات والأطفال خصوصاً.
ومن المؤكد، وفق التقرير الأممي، أن تكون البلدان ذات الدخل المنخفض التي تعاني من نقص الغذاء هي الأكثر تضرراً، بسبب استحالة ضمان إمدادات غذائية كافية بسبب الاضطرابات في إنتاج السلع الغذائية الأساسية وتجارتها، فهناك 45 دولة، حول العالم بحاجة إلى مساعدة خارجية من أجل توفير الغذاء، منها 34 دولة في أفريقيا، ومنها من الدول العربية: اليمن وسورية والعراق وليبيا ولبنان والصومال، وفقاً لتقرير توقعات المحاصيل وحالة الأغذية الفصلي الذي نشره قسم الأسواق والتجارة في منظمة الأغذية والزراعة في نهاية العام الماضي. وفي منطقتنا العربية، لم يؤثر الوباء بكمية الطعام فحسب، بل بتنوعه وجودته، فقد تحولت العائلات إلى أغذية أرخص تفتقر إلى الفيتامينات والبروتينات.
في لبنان، تضاعفت أسعار المواد الغذائية ثلاثة أضعاف تقريباً خلال الاثني عشر شهراً الماضية. وفقدت الليرة اللبنانية أكثر من 80% من قيمتها، وأثر ذلك بشدة في القوة الشرائية للبنانيين وتراجع قيمة رواتبهم ومدخراتهم. وكشفت دراسة استقصائية أجراها برنامج الأغذية العالمي أنّ واحداً من كلّ ثلاثة لبنانيين تعرض للبطالة، وأنّ خُمس السكان تقريباً انخفضت رواتبهم، ودفع هذا 85% من الأسر إلى شراء أطعمة أرخص وأقل في التفضيل والجودة.
والمؤسف أنّ نصف الأسر التي شملتها الدراسة في لبنان أفادت بأنّها أصبحت في ظلّ الوباء تقلّل من كمية ما تتناوله في وجباتها من أطعمة. وحذرت منظمة "أنقذوا الأطفال" من أنّ نحو مليون نسمة في بيروت لا يملكون المال الكافي لتأمين الطعام، أكثر من نصفهم من الأطفال المهددين بالجوع، في ظلّ أخطر أزمة يشهدها لبنان منذ الحرب الأهلية التي دارت رحاها في الفترة بين 1975-1990، ورغم ذلك تسعى الحكومة إلى اتخاذ قرار برفع الدعم عن السلع الغذائية بسبب الانهيار المالي، ما سيعرض المزيد من المواطنين لشبح الجوع.
وفي مصر، كشف تقرير للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الحكومي أنّ ثُلث الأسر باتت لا يكفيها دخلها، ونصف الأسر التي لا يكفيها الدخل تضطر إلى الاقتراض للوفاء بحاجة أولادها من الغذاء الضروري، وأنّ 17% منهم قبلوا تبرعات من أهل الخير والمحسنين، وأنّ 15% من الأسر باعت جزءاً من ممتلكاتها للوفاء بمتطلباتها الحياتية، فيما تلقت 5.4% فقط من الأسر منحة العمالة غير المنتظمة، وهي 500 جنيه (32 دولاراً) للأسرة الواحدة، لثلاثة أشهر فقط!
وفي العراق، ألقت كورونا بظلالها القاتمة على الأسر، وكشف برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة أنّ 10% من العراقيين ليس لديهم ما يكفي من الطعام، وأنّ 35% يضطرون إلى شراء الأغذية الرخيصة، وأنّ نحو 3 ملايين عراقي، من بينهم أكثر من 700 ألف نازح، ليس لديهم ما يكفي من الطعام.
وزاد عدد الفقراء من 10 ملايين إلى 13 مليوناً بسبب الجائحة. وأظهرت دراسة أجرتها منظمة أوكسفام عن تداعيات كورونا على العراقيين، اضطرار الأسر إلى شراء الطعام بالدَّين والاعتماد على الأنواع الأرخص من الغذاء والتفريط في جودته، وخفضت الأسر نسب الاستهلاك الأسبوعي من اللحوم والدواجن والأسماك، وقللت كمية الطعام في الوجبات، وبات كثير منها ينتظر المساعدة من الأصدقاء أو الأقارب والمحسنين.
ووجدت الدراسة أنّ 3 من بين كلّ 5 نساء حُرمن إمكانية الحصول على الطعام المغذي منذ انتشار الوباء في البلاد. الغريب أنّ العراق الذي يعتبر خامس أكبر مصدّر للنفط على مستوى العالم، وكان يوفر السلع الغذائية بنحو شبه مجاني خصصت حكومته أموالاً لا تكفي لتأمين الحصص التموينية إلا لأربعة أشهر فقط العام الماضي، رغم تفاقم الجائحة.
وفي اليمن المنكوب بالحرب الداخلية وكورونا، كشف برنامج الأغذية العالمي عن حجم المأساة التي يعيشها المواطنون، وذلك عبر "تويتر" فقال: "لو كان عدد سكان اليمن 100 شخص، فإنّ 80 منهم يحتاجون إلى المساعدات للبقاء على قيد الحياة، 66 منهم ليس لديهم طعام كافٍ، 59 بلا رعاية صحية، 67 ليست لديهم مياه صالحة للاستهلاك، 11 يعانون من سوء تغذية حاد... لكنّ عدد سكان اليمن ليس 100 شخص، بل 30.5 مليوناً".
أما عن حالة الأمن الغذائي في سورية، فمأساوية. فقد أعلن برنامج الأغذية العالمي أنّ 12.4 مليون شخص يكافحون هناك للعثور على ما يسدّ رمقهم من الطعام، وأنّ 60% من السوريين يعانون منذ العام الماضي من انعدام الأمن الغذائي. زاد التضخم في جميع أنحاء البلاد، وفي مطلع عام 2021، كانت أسعار المواد الغذائية أعلى 33 مرة من المتوسط في خمس سنوات قبل الحرب.
وفي كلمة أمام جامعة الدول العربية في نهاية العام الماضي، حذّر المدير التنفيذي لبرنامج الأغذية العالمي، ديفيد بيزلي، من ارتفاع عدد الأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي في العالم العربي إلى أكثر من 50 مليون شخص. وقال إنّ جائحة كورونا تزيد من عدد الأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي في المنطقة العربية بأكثر من 14 مليوناً. وأكد أنّ الإجراءات التي تُتخذ ستحدد النجاح أو الفشل في الحيلولة دون تحول هذه الأزمة الصحية إلى جائحة جوع.
معاناة الأسر العربية ستستمر في ظل حرمانها الدعم الاجتماعي الكافي في مواجهة الجائحة لسببين: الأول ما كشفه مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الأميركي من أن المؤسّسات المالية الدولية قدمت حوالى 175 مليار دولار كتمويلات لأزمة فيروس كورونا حول العالم في خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام الماضي. لكنّ 15.7 مليار دولار فقط من هذا المبلغ (9%) خصص للدول العربية، رغم أنّ المنطقة تواجه أسوأ أزمات النزوح في العالم.
والثاني أنّ دول مجلس التعاون الخليجي، التي دعمت تاريخياً اقتصادات الدول العربية المجاورة لها، تواجه تراجعاً في أسعار النفط والغاز الطبيعي. وكان صندوق النقد الدولي قد قدر في يوليو/ تموز الماضي أنّ الدول العربية ستجني عائدات نفطية أقل بـ270 مليار دولار في عام 2020 مقارنة بالسنوات السابقة. وفي التوقيت نفسه، توقعت وكالة التصنيف العالمية "ستاندرد أند بورز" أن تراكم دول الخليج العربية النفطية عجزاً بقيمة 490 مليار دولار في الأعوام الأربعة المقبلة بسبب فيروس كورونا وانخفاض أسعار النفط.
ولخطورة الموقف الغذائي على رأس المال البشري في العالم والمنطقة العربية على وجه الخصوص، ينصح رئيس البنك الدولي، ديفيد مالباس، بتعزيز شبكات الأمان الاجتماعي ودعم الأسرة. فشبكات الأمان الاجتماعي قصيرة الأجل وسيلة حيوية للأسر التي تضررت من جراء الأزمات الصحية والاقتصادية.
ورغم أنّ استجابة العالم كانت غير مسبوقة في الحماية الاجتماعية للتصدي لأزمة فيروس كورونا، إذ وصلت التحويلات النقدية إلى 1.1 مليار شخص حول العالم، مثل العمال في القطاع غير الرسمي والعمالة اليومية، فإنّها ما زالت غير كافية.
ففي استعراض لبرامج الاستجابة الاجتماعية للتصدي لأزمة كورونا، تبين أنّ برامج التحويلات النقدية قصيرة الأجل في مدتها، ولا تدوم أكثر من ثلاثة أشهر في المتوسط، وضئيلة القيمة، بمتوسط 6 دولارات للفرد في البلدان منخفضة الدخل، ومحدودة النطاق، مع عدم تغطية الغالبية من المحتاجين.
وكشفت الجائحة عن حتمية زيادة استثمارات الحكومات في نظم الحماية الاجتماعية ومشاريع إنتاج الغذاء للحدّ من مشاكل نقص وسوء التغذية، وخصوصاً في المنطقة العربية التي تستورد أكثر من نصف احتياجاتها الغذائية من الخارج.