يتسلل مشترو النفط في جنوب أوروبا بهدوء بحثاً عن الخام الروسي من أبواب خلفية، بعيداً عن إزعاج العقوبات الواسعة التي فرضها الغرب على موسكو منذ غزوها أوكرانيا، إذ تظهر بيانات تتبع شحنات الخام زخماً في الطلب على المحروقات الروسية.
فقد ارتفعت شحنات الخام الروسي إلى موانئ في إيطاليا وتركيا إلى أعلى مستوياتها منذ عدة أسابيع في الأيام السبعة حتى 5 أغسطس/آب الجاري، ما مثل منفذاً لعبور الخام نحو مناطق شمال أوروبا التي انخفضت الشحنات إليها، وفق بيانات تتبع الناقلات التي ترصدها وكالة بلومبيرغ الأميركية.
وزادت شحنات الخام من محطات التصدير في بحر البلطيق والبحر الأسود إلى مصافي التكرير في إيطاليا إلى أعلى مستوى لها في سبعة أسابيع، وكانت الشحنات إلى تركيا هي الأكبر في ستة أسابيع، كما استلمت إسبانيا أولى شحناتها من خام الأورال منذ إبريل/نيسان الماضي.
أيضاً شهد الأسبوع الماضي استلام اليونان أول شحنة من خام الأورال من بحر البلطيق منذ فبراير/شباط الماضي.
أقوى نشاط لناقلات النفط منذ عقود
وتسلط التدفقات المتزايدة إلى العديد من الدول الأوروبية الضوء على مدى صعوبة مراقبة تنفيذ العقوبات التي تحظر النفط الروسي تدريجياً، إذ يستمر النفط الروسي في التدفق بكميات كبيرة إلى مختلف البلدان الرئيسية المستوردة.
كما كان لتوقف الإمدادات أخيراً إلى ثلاث دول وسط أوروبا، هي المجر التشيك وسلوفاكيا، بفعل العقوبات الغربية على مدفوعات النفط، تأثير سريع على هذه الدول، ما دعاها للهرولة نحو إنهاء المشكلة خوفا من تداعيات انقطاع الخام عنها، ما يشير إلى أن العقوبات الغربية على الطاقة الروسية أشبه بإطلاق الرصاص على الأقدام بدلاً من استهداف الخصم.
ووفق بيانات بلومبيرغ، استقرت شحنات النفط الخام الروسية المنقولة بحراً إلى أوروبا عند نحو 500 ألف برميل يومياً، ولم تتغير كثيراً عما كانت عليه قبل غزو أوكرانيا.
كما أن إجمالي التدفقات المتجهة عبر مختلف وسائط الإمداد من أنابيب وناقلات بلغ حوالي 3.46 ملايين برميل يومياً في الأسبوع حتى الخامس من أغسطس/آب، وهو ما يقترب من المعدل الطبيعي قبل الحرب البالغ نحو 3.5 ملايين برميل يومياً.
وكانت حزمة العقوبات الأوروبية على موسكو التي جرى إقرارها في يونيو/حزيران الماضي، قد شملت حظر واردات النفط الروسي المصدر إلى أوروبا بحراً، بينما جرى استثناء النفط المنقول عبر الأنابيب نظرا لاعتماد دول مثل المجر وسلوفاكيا والتشيك عليه.
كما كانت كل من بولندا وألمانيا قد تعهدتا بوقف استيراد النفط الروسي الواصل إليهما عبر خطوط الأنابيب بحلول نهاية هذا العام، وهي الخطوة التي قال مسؤولون في الاتحاد الأوربي حينها إن من شأنها وقف 90% من واردات النفط الروسي إلى الاتحاد الأوروبي بالنظر إلى مستويات ما قبل الحرب.
ثالث أكبر منتج للنفط في العالم
تعد روسيا ثالث أكبر منتج للنفط في العالم بعد الولايات المتحدة والسعودية. وقبل الحرب كان أكثر من نصف الصادرات الروسية من النفط يذهب إلى أوروبا، التي كانت تعتمد على موسكو في تغطية 27% من احتياجاتها النفطية، و40% من احتياجاتها من الغاز.
لكن يبدو أن روسيا تحذو حذو إيران وفنزويلا بعد فرض عقوبات أميركية عليهما، حيث تبيع النفط بين الناقلات في المياة الدولية. إذ يتم بيع النفط بين السفن التى تغير وجهتها في المياه الإقليمية وبالتالي يصبح من الصعب تتبع وجهتها النهائية.
وتعتمد هذه التجارة على وسطاء يعملون خارج النظام المالي العالمي. ومن الممكن أن تلعب الشركات الصينية والهندية دوراً محورياً في هذا النوع من الوساطة لبيع النفط الروسي لطرف ثالث، إذ ضمنت هذه العملية استمرار بيع النفط الفنزويلي والإيراني رغم العقوبات المفروضة على البلدين.
وكانت شركة "ويندوارد" المتخصصة في مجال الذكاء الاصطناعي البحري، قد قالت في تقرير لها، نهاية مارس/آذار الماضي، إنها رصدت في الأسبوع السابق لنشر التقرير ما لا يقل عن 33 حالة "نشاط خفي" لناقلات نفط روسية، أي أنها أوقفت أنظمة بث مواقعها خلال عملها، مشيرة إلى أن ممارسات الناقلات الروسية هذه تمثل أكثر من ضعف المتوسط الأسبوعي البالغ 14 حالة في العام الماضي.
نشاط خفي في البحر
وجاءت حالات "النشاط الخفي" في المنطقة الاقتصادية الخالصة لروسيا، أو حولها بشكل أساسي، وفق الشركة التي أجرت البحث بناءً على طلب من بلومبيرغ، بحسب ما ذكر موقع أويل برايس الأميركي المتخصص في الطاقة، وقالت إن السفن المشاركة بهذا النشاط تابعة لشركات كبرى وشركات شحن متعددة الجنسيات، فضلاً عن شركات صغيرة.
ويشترط القانون البحري الدولي على السفن التجارية أن يكون لديها نظام تعرف آلي، يسمى "إيه أي إس"، عامل خلال وجودها في البحر. ويُعدّ التعطيل أو التلاعب بنظام تحديد هوية السفينة على رأس ممارسات الشحن الخادعة، التي استشهدت بها وزارة الخزانة الأميركية في مايو/أيار الماضي، للحد من الشحن غير المشروع والتهرب من العقوبات.
وتحولت الطاقة الروسية إلى سلاح في الحرب بين موسكو والغرب منذ غزت روسيا أوكرانيا في 24 فبراير/ شباط الماضي، إذ تواصل موسكو ضغوطها بورقة الطاقة، خاصة الغاز الطبيعي، لمجابهة العقوبات الغربية الواسعة، ليصل عدد الدول التي جرى حجب إمدادات الوقود الأزرق عنها إلى ست دول، آخرها لاتفيا التي اتهمتها موسكو بانتهاك شروط سحب الغاز.
وصنفت وكالة موديز العالمية للتصنيف الائتماني، مساء الاثنين الماضي، 6 دول في الاتحاد الأوروبي "الأكثر انكشافاً" على فرضية وقف روسيا إمدادات الغاز عن دول التكتل، هي ألمانيا، والتشيك، والمجر، وإيطاليا، وسلوفاكيا، والنمسا، مشيرة إلى أن خفض الإمدادات أكثر أو وقفها سيؤدي إلى الإضرار بالنمو وزيادة التضخم في دول التكتل، "كما أنه يزيد من احتمال حدوث أزمة مخاطر ائتمانية".
وتدفع هذه المخاطر الكثير من الدول الأوروبية إلى الالتفاف بنفسها على العقوبات ضد موسكو لتجنب انقطاع الإمدادات في وقت تبدو فيه البدائل باهظة الكلفة في ظل منافسة الاقتصادات الكبرى، لا سيما الصين واليابان وكوريا الجنوبية، على ملء خزاناتها لتأمين احتياجاتها المستقبلية.