على الرغم من أن غالبية الشعب الأميركي تؤمن بضرورة الانسحاب من أفغانستان ويدعمه تماماً وعلى قناعة أن الحرب الأفغانية لا تساوي كلفتها الباهظة، إلا أنها غير راضية عن أسلوب إدارة الرئيس بايدن للانسحاب وما تلاه من فوضى، إذ أظهرت استفتاءات الرأي الأميركي ضعف الإدارة الأميركية في التعامل مع الأزمات وخطأ حساباتها في تقدير ما يتلو الانسحاب.
وحسب بيانات معهد بروكغنز للدراسات بواشنطن فقد تراجعت شعبية بايدن بنسبة 13% من 60% في يوليو/ تموز إلى 47% في نهاية أغسطس/ آب.
ويرى محللون أن هذا التراجع قد تكون له تداعيات على استراتيجية بايدن الاقتصادية داخل الولايات المتحدة وخارجها، ويذهب البعض إلى أن أفغانستان قد تؤثر سلبا على مستقبل بايدن السياسي والاقتصادي.
إلا أن آخرين يقللون من هذه التوقعات ويصفونها بالمبالغة، بل ويؤكدون أن الاقتصاد الأميركي قد يكون مستفيدا من هذا الانسحاب، خاصة وأنه سيوفر مليارات الدولارات لدافعي الضرائب في الولايات المتحدة، إذ إن كلفة تواجد القوات الأميركية في أفغانستان بلغت تريليوني دولار على مدى 20 سنة.
على صعيد سعر صرف الدولار ومركزه العالمي كـ"عملة احتياط دولية"، فإن أفغانستان دولة صغيرة جداً ولا يتجاوز حجم ناتجها المحلي 22 مليار دولار، كما أنها بعيدة جغرافياً عن الولايات المتحدة، وبالتالي فإنها غير مؤثرة على الاقتصاد الأميركي وفق محللين ماليين غربيين، لكن التأثير السلبي يبقى على الثقة في نفوذ الولايات المتحدة ومستقبلها كـ" حليف موثوق به" من قبل أصدقاء الولايات المتحدة في آسيا والمنطقة العربية.
في هذا الصدد، يرى خبير الاستثمار بمعهد "بارينغز إنفستمنت" في سنغافورة، كريستوفر سمارت، أن تأثير الانسحاب على الأسواق العالمية يأتي من تقييم المستثمرين للدور الأميركي من حيث النفوذ الطاغي على المسرح العالمي، وعما إذا كان الانسحاب الأميركي من أفغانستان يعني أن "الولايات المتحدة باتت غير راغبة في لعب دور شرطي العالم وباتت غير مهتمة بنشر قيم الديمقراطية والسوق الحر".
يثير خبير الاستثمار بمعهد "بارينغز إنفستمنت" الشكوك في مستقبل سندات الخزينة الأميركية كـ"ملاذ استثماري آمن"، وموقع الدولار كـ"عملة احتياط دولية"، يمكن الرهان عليها في لحظات الحروب والأزمات
ووفق مراقبين فإن النفوذ الأميركي يلعب دوراً رئيسياً في قوة الدولار ونفاذ سياسات الحظر الاقتصادي والمالي التي باتت من أهم أدوات السياسة الخارجية الأميركية.
ولاحظ سمارت أن الصين وروسيا تحركتا بسرعة لبناء علاقات مع حركة طالبان، وملء فراغ النفوذ الأميركي في أفغانستان. ويقول إن هذا الانسحاب الفوضوي سيكون له تأثير سلبي على موقع أميركا "القوة العظمى" في العالم من حيث الاستثمار في أسواقها المالية وأدوات الدين التي تعتمد عليها.
ويشير في هذا الصدد، إلى أن ذلك سيجعل كمية من السحب السوداء تتراكم في سماء الاستثمار الأجنبي بالولايات المتحدة. ولكن هذا التأثير السلبي سوف يأخذ وقتاً وربما عقود.
ويثير سمارت الشكوك في مستقبل سندات الخزينة الأميركية كـ"ملاذ استثماري آمن"، وموقع الدولار كـ"عملة احتياط دولية"، يمكن الرهان عليها في لحظات الحروب والأزمات. ولكن هذا التأثير السلبي سوف يأخذ وقتاً وربما عقود.
وفي المقابل هذه الرؤية السوداء، يرى محللون أن انسحاب الولايات المتحدة من فيتنام الذي اتسم بفوضى شبيهة بما حدث في أفغانستان لم يؤثر على موقع الولايات المتحدة كقوة مهيمنة على النظام المالي العالمي، كما أن أهمية الدولار في الاحتياطات النقدية بالبنوك المركزية العالمية تعززت خلال العقود التي تلت حرب فيتنام.
من جانبها ترى الخبيرة بمصرف "رابو بانك"، جان فولي، في مذكرة بهذا الصدد، أن الانسحاب الأميركي الفوضوي ربما سيرفع من القلق في آسيا حول ما إذا كانت الولايات المتحدة ستدافع عن تايوان في حال تعرضها لهجوم من قبل الصين.
وبالتالي ترى فولي أن الانسحاب الأميركي سيثير قلق حلفاء الولايات المتحدة في آسيا، كما سيرفع من المخاوف من سياسات بكين التوسعية في القارة.
خبيرة بمصرف "رابو بانك": الانسحاب الأميركي الفوضوي ربما سيرفع من القلق في آسيا ويثير قلق حلفاء الولايات المتحدة
في هذا الصدد، نصح البروفسور مايكل.جي. غرين من جامعة "جورج تاون" بواشنطن إدارة الرئيس جو بايدن بالتحرك بسرعة لطمأنة الحلفاء في آسيا خاصة دول "إندو ـ آسيا" الست الأعضاء في اتفاقية منطقة التجارة الكبرى التي تم توقيعها في العام 2019 ولم تنضم إليها الولايات المتحدة.
ورأى البروفسور غرين، إن على الإدارة الأميركية العمل على وضع برامج اقتصادية ضخمة مع الدول الآسيوية وتسريع برامج تمويل البنى الأساسية لتعزيز الثقة الأميركية في آسيا.
وكانت نائبة الرئيس الأميركي كمالا هاريس قد زارت دول آسيا في نهاية الشهر الماضي، ولكن يقول البروفسور غرين في تحليل بمجلة " فورين ريبورت" الأميركية إن هذه الزيارة "على الرغم من أهميتها في هذا التوقيت، ولكنها ليست كافية وهنالك حاجة لدعمها بمزيد من اتفاقات التجارة".
على الصعيد الاقتصادي داخل الولايات المتحدة، لاحظ خبراء تراجع دعم الشعبي لسياسات بايدن الخاصة بالبيئة والإنقاذ الاقتصادي، ولكن الأزمة الكبرى التي ربما سيواجهها بايدن خسارة الأغلبية التي يتمتع بها الحزب الديمقراطي داخل الكونغرس وساهمت في إجازة سريعة لبرامجه الاقتصادية.
ومن غير المستبعد أن يواجه بايدن معركة صعبة في انتخابات الكونغرس في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.
وعلى صعيد أسواق المال فإن الانسحاب الأميركي رفع من مخاطر الاستثمار في بعض الأسواق الناشئة، ولكن بنسبة ضئيلة جداً شبيهة بالمخاطر التي سببتها أزمة كوسوفو في التسعينيات.
وترى شركة "إنفسمنت ماتريكس" في دراسة أمس الاثنين، أن المستثمرين في أوروبا والولايات المتحدة يركزون الآن على تداعيات أفغانستان على أسواق المال العالمية.
ويقول ديمان هانزي رئيس الأبحاث بشركة "انفسمنت ماتريكس" أن مؤشرات "فاينانشيال تايمز أس إي 100" ومؤشرات "ستاندرد آند بوورز 500" خسرت في المتوسط نحو 10 نقاط أساس من قيمتها، أي نحو 0.10%، وهي نسبة ضئيلة.
لكن المستثمرين يترقبون كيفية إدارة حركة طالبان للحكم والاستقرار السياسي في أفغانستان قبل إجراء حساب نهائي لتقييم تأثير الانسحاب الأميركي على أسواق المال.