تتوجّه الحكومة الجزائرية إلى طرح آلية التسوية الودية لاسترجاع مليارات الدولارات التي جرى تهريبها من قبل رجال الأعمال ومسؤولين سابقين إلى الخارج، حيث توجد في حسابات بنكية، أو على شكل ممتلكات عقارية واستثمارات، كفنادق أو غيرها.
وتكشف وثيقة بيان السياسة العامة التي سيقدمها رئيس الحكومة أيمن بن عبد الرحمن أمام نواب البرلمان أن الحكومة تعتزم "اعتماد طريقة تسوية ودية تضمن استرداد الأملاك المختلسة، واستكمال مشروع القانون المتعلق بقمع مخالفة تشريع وتنظيم الصرف وحركات رؤوس الأموال من الخارج وإليه، من أجل تفضيل التسوية الودية عن الإجراءات الجزائية، وذلك قصد تعزيز القدرات المالية للدولة"، في إشارة إلى إمكانية لإقناع عدد من رجال المال والأعمال المودعين أموالهم المهربة في بنوك بالخارج، بإعادتها إلى البلاد وكشف مكانها، مقابل تسويات أو تخفيض العقوبات المتصلة بقضاياهم.
وتلاحق الجزائر عدداً كبيراً من الحسابات في بنوك أجنبية، خاصة في فرنسا وإسبانيا وسويسرا ولبنان والإمارات، وممتلكات عقارية مملوكة لرجال أعمال موقوفين في السجون على ذمة قضايا فساد وصفقات مشبوهة ونهب للمال العام، وأملاكاً عقارية لاستعادتها لصالح الدولة.
كما تقوم الحكومة الجزائرية منذ فترة بجميع الإجراءات القضائية لدى دول عدة، لتحديد الحسابات والأملاك للحجز عليها لصالح الجزائر.
استرجاع بعض الأصول
وفي شهر فبراير/ شباط الماضي أعلن الرئيس تبون أن الجزائر تمكنت من استرجاع ما لا يقل عن 44 عقاراً من بينها قصور وشقق في فرنسا، ضمن عملية استرجاع الأموال المنهوبة والمحوّلة نحو الخارج، وحث دول الاتحاد الأوروبي على تذليل العقبات، لمساعدة الجزائر على استرجاع أموالها.
وأعلنت الحكومة في السياق نفسه "تعزيز الجهاز الذي جرى وضعه لتسيير الأملاك المحجوزة، وإدراج أحكام خاصة لتسيير الشركات محل المتابعات القضائية"، تسمح بتشغيلها مجدداً من قبل شركات عمومية.
وكان مجلس الوزراء قد قرر، الأسبوع الماضي، استحداث وكالة حكومية تتولى متابعة ملف استرجاع الممتلكات والأموال المنهوبة من قبل رجال الأعمال والمسؤولين، ووضعها تحت تصرف الدولة، بالتنسيق بين وزارتي العدل والمالية"، بعدما كان الرئيس تبون قد كلف وزير الصناعة شهر يناير/ كانون الثاني الماضي بجرد المصانع ومؤسسات الإنتاج المملوكة لرجال الأعمال الملاحقين في قضايا فساد، والتي جرت تسوية وضعيتها القانونية، وصدرت بشأنها أحكام مصادرة نهائية لفائدة الدولة، بهدف إدماجها مجدداً في عجلة الإنتاج الوطني، وإعادة تشغيلها، وتوفير مناصب الشغل.
وفي السياق ذاته، تفيد وثيقة بيان السياسة العامة للحكومة عزمها "مواصلة مكافحة الفساد والمحاباة والمحسوبية، لا سيما من خلال إصلاح قانون الوقاية من الفساد ومكافحته، وذلك من أجل تشديد العقوبات، فيما يخص جرائم الفساد، ووضع الآليات القانونية المتعلقة بتشكيل الهيئة العليا للشفافية والوقاية من الفساد ومكافحته، ومراجعة التشريعات المتعلقة بالوقاية من تبييض الأموال وتمويل الإرهاب ومكافحتهما، وكذا فيما يخص حق المواطن في الولوج إلى المعلومات، في مجال مكافحة الفساد"، بهدف إشراك المواطنين والمجتمع المدني في محاربة الفساد، والتبليغ عن التجاوزات التي قد تحدث في هذا الإطار.
ومع إنشاء هيئة السلطة الوطنية العليا للشفافية، وهيئة التحري عن الشراء غير المشروع، تصبح الجزائر تتوفر على سبع هيئات حكومية ورقابية لمكافحة الفساد في الجزائر، إضافة إلى الديوان المركزي لقمع الفساد، الذي أنشئ عام 2006، والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، التي باتت هيئة دستورية منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، ومجلس محاسبة، والمفتشية العامة المالية، والمفتشية العامة في الرئاسة.
موجات من الفساد والنهب
لكن اللافت أن وجود كل هذه الهيئات الرقابية ومكافحة الفساد لم يمنع تعرّض الجزائر خلال العقدين الماضيين، بشكل خاص، إلى أكبر موجة فساد ونهب للمال العام وتلاعب بالصفقات العمومية والمقدرات والممتلكات.
إذ تفجّرت بعد الحراك الشعبي مئات قضايا الفساد واختلاس المال العام، التي تورط فيها كبار المسؤولين بالدولة، ورؤساء حكومات، ووزراء في الحكومة، وموظفون في مختلف مؤسسات الدولة والجيش، ما يعني أن المسألة لا ترتبط بالتشريعات والقوانين الصارمة، أو ضخ مزيد من الهيئات الرقابية، بقدر ما ترتبط بمدى توفر إرادة جدية في مكافحة الفساد وسد المنافذ المؤدية إليه، وتحرير العدالة والمؤسسة القضائية والأمنية من الضغوط والتوظيف السياسي.
وتبدي الحكومة، وفق الوثيقة نفسها، التزاماً سياسياً بمحاربة الرشوة والثراء غير المشروع لدى الموظفين الحكوميين، وأكدت أنها تعمل على "تطوير آليات جديدة للوقاية والمراقبة، من أجل ضمان نزاهة الموظفين العموميين والتسيير الجيد للأموال العمومية، وكذا إقامة علاقة بين المواطن والدولة قائمة على مبادئ المسؤولية وواجب المساءلة، ولا سيما من خلال وضع ميثاق الأخلاقيات والآداب المتعلق بالموظفين العموميين، وكذا الإطار التنظيمي المتعلق بحركة مستخدمي التأطير، قصد حظر عدم قابلية نقل المسؤولين، الذي يشكل خطراً للتجاوزات والانتهاكات".
وكذا التزمت الحكومة "بتعزيز الشفافية في تسيير الأموال العمومية وتتبعها والوصول إلى الصفقات العمومية، وترسيخ القيم الأخلاقية، وتجديد الإطار القانوني المطبق على الموظفين العموميين، ووضع منظومة قانونية للوقاية من تضارب المصالح في الحياة العامة".
وفي الثاني من يناير الماضي، أعلن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون عن استحداث "هيئة جديدة للتحري في مظاهر الثراء، عند الموظفين العموميين، بلا استثناء، من خلال إجراءات قانونية صارمة لمحاربة الفساد، عملاً بمبدأ من أين لك هذا".
ولمحاربة ظاهرة المحسوبية والوساطة ومنح الوظائف والتعيينات خارج القانون، في مختلف المناصب والمسؤوليات المحلية والمركزية، تؤكد الوثيقة التي ستعرض على البرلمان، عزم الحكومة على وضع قواعد صارمة تضمن أن يكون "الالتحاق بوظائف الدولة على أساس الكفاءة، حيث سيكون الحصول على وظائف المسؤولية في الدولة على أساس المؤهلات والجدارة والكفاءة والنزاهة حصرياً، وذلك من خلال تأطير صارم لمسابقات التوظيف، والدعوة للترشح للالتحاق بهذه الوظائف، مع عصرنة الإدارة والوظيفة العمومية، ومراجعة أنماط تسييرها".