بل يمكن أن يتعدى التقشف الخليجي الآتي ما هو أبعد من هذه الخطوات، والوصول لمرحلة أعنف وأخطر وهي استنزاف دول الخليج احتياطياتها الأجنبية بالخارج التي تزيد على التريليون دولار بالكامل أي ألف مليار دولار، أو سحب الجزء الأكبر منها.
وهذا السيناريو المزعج للحكومات الخليجية ليس مستبعداً، بل قابل للاحتمال وربما التحقق لعدة أسباب:
* مواصلة أسعار النفط تراجعها في الأسواق العالمية، علماً بأن الأسعار فقدت نحو 50% من قيمتها منذ شهر يونيو/حزيران 2014، وهو ما ألحق خسائر فادحة بالدول الخليجية التي تمثل الإيرادات النفطية نحو 95% من إيرادات موازناتها الكلية، ويظل استمرار تراجع أسعار النفط خلال الفترة المقبلة مرجحاً مع توقعات بزيادة إنتاج إيران النفطي إلى 4 ملايين برميل يوميا عقب رفع العقوبات الغربية، وربما زيادة إنتاج دول أخرى منتجة للنفط لتحسين مراكزها المالية وتعويض خسائرها، ومنها ليبيا والعراق (كردستان العراق تحديداً).
* استمرار حرب التحالف الذي تقوده السعودية ضد الحوثيين في اليمن لفترة أطول، وهو ما يستنزف موازنات بعض دول الخليج، خاصة السعودية، التي تخصص مليارات الدولارات لتمويل تكاليف هذه الحرب، بل وقد تمتد التكلفة لمرحلة ما بعد انتهاء الحرب وهي مرحلة إعادة إعمار اليمن وهي مرحلة مكلفة مالياً خاصة مع فداحة الخسائر الناجمة عن الحرب القائمة.
* دخول بعض دول الخليج حرباً جديدة ساحتها سورية هذه المرة، للقضاء على نظام بشار الأسد الدموي والفاشي الذي قتل وشرد ملايين السوريين بدم بارد، علماً بأن هذه الحرب لها تكلفتها حتى وإن قصرت مدتها.
* امتداد خطر الإرهاب اللعين لمنطقة الخليج قادما من ناحية الشمال حيث العراق وسورية، وهو ما قد يزيد من مخصصات الأمن المالية بهذه الدول.
* وقد يحدث الاستنزاف للاحتياطيات الدولية الخليجية مع وجود خطر حقيقي ومستمر يهدد الخليج من ناحية الشمال؛ وأقصد هنا تحديدا خطر تنظيم "داعش" الذي بات يحتل أكثر من 40% من مساحة كل من سورية والعراق، ولا يوجد بادرة لانقشاع خطره في المستقبل القريب حسب تصريحات لمسؤولين غربيين بالتحالف الدولي.
هذه الأسباب وغيرها قد تدفع دول الخليج إلى مزيد من التقشف المالي، أو سحب مزيد من الأموال من احتياطياتها الخارجية، علماً بأن معظم هذه الدول بدأت بالفعل إجراءات تقشفية ورفع لأسعار بعض السلع والخدمات الضرورية ومنها المياه والكهرباء والوقود، والحد من الإنفاق الحكومي بهدف تقليص عجز الموازنة العامة.
اقرأ أيضا: الخليج الغني يقترض
وأحدث مثال على حالات التقشف التي أتحدث عنها هو قرار الإمارات أمس الأربعاء تحرير أسعار الوقود بهدف توفير 7 مليارات دولار يتم إنفاقها على دعم الوقود سنوياً، إذ نقلت وكالة أنباء الإمارات الرسمية عن وزارة الطاقة قولها إنه تقرر تحرير أسعار البنزين والديزل بداية من شهر أغسطس/آب المقبل، مع استحداث سياسة تسعير جديدة ترتبط بالمستويات العالمية، وهذا يعني ببساطة تخلّي الدولة عن دعم أسعار الطاقة، وبيعه للمواطن بسعر التكلفة، وترك الأسعار للعرض والطلب وطبقا لتحركات الأسواق الدولية.
التحرك الإماراتي يأتي ترجمة لتوقعات صندوق النقد الدولي بتسجيل الإمارات أول عجز مالي لها هذا العام منذ العام 2009، حيث أكد في بداية شهر يونيو/حزيران الماضي أن من المنتظر أن تسجل الإمارات أول عجز للمالية العامة منذ 2009 بسبب هبوط إيرادات النفط، كما توقع الصندوق تراجع نمو الناتج المحلي الإجمالي في البلاد إلى 3% هذا العام من 4.6 % في 2014 ليرتفع إلى 3.1 % في العام المقبل.
الخطوة الإماراتية الخاصة بالتحرير الكامل لأسعار البنزين والديزل تعد الأولى من نوعها في منطقة الخليج، وربما لن تكون الأخيرة، خاصة مع معاناة موازنات هذه الدول من عجز حاد، فعلى سبيل المثال، انخفاض أسعار النفط سيتسبب في تسجيل السعودية، أكبر الدول المصدرة للنفط في العالم، عجزاً قيمته 106 مليارات دولار في العام الجاري 2015، وهو ما دفعها للاقتراض بغزارة لتغطية العجز.
وحسب البيانات الصادرة عن مؤسسة النقد العربي السعودية "البنك المركزي"، فقد تراجع الاحتياطي العام للسعودية إلى 660 مليار ريال بنهاية شهر مايو/أيار الماضي مقابل 905 مليارات ريال في نهاية العام الماضي 2014، وهذا يعني أن الاحتياطي فقد 245 مليار ريال في الأشهر الخمسة الأولى فقط من العام الحالي، وحسب محللين فإنه في حال استمر سحب الحكومة السعودية من الاحتياطي بهذا المعدل الذي وصل لأدني مستوياته منذ عام 2012، فإن المملكة مهددة بفقدان نحو 588 مليار ريال خلال عام 2015 فقط، وقد تفقد الاحتياطي بالكامل في النصف الأول من العام المقبل.
وبالنسبة للدول الخليجية الأخرى، فقد قامت هي الأخرى بإجراءات تقشفية، فالكويت، على سبيل المثال، رفعت أسعار الديزل والكيروسين في شهر يناير/كانون الثاني الماضي، وتخطط البحرين لاقتراض أموال من بنوك محلية وخارجية لتغطية العجز في موازنتها العامة المقدر بنحو 4 مليارات دولار في العام الجاري 2015، ومثلها للعام المقبل.
ويتكرر المشهد في سلطنة عمان حيث تعتمد السلطنة على الاقتراض الداخلي في سد عجز الموازنة، والبالغ 6.47 مليارات دولار في العام الجاري 2015، بسبب انهيار أسعار النفط.
إذن الخليج يتقشف، وهو ما ستكون له تبعاته الخطيرة، ليس فقط على الاقتصاد الخليجي وحسب، بل على الاقتصاد العربي برمته وخصوصا الدول التي تصدر عمالة ضخمة لمنطقة الخليج، وهذا سيكون محور مقال مقبل.
اقرأ أيضا: السعودية تقترض وتوقعات بتجاوز العجز 100 مليار دولار