كان العام الجاري الذي شارف على النهاية عام التحديات الكبرى والمقلقة للمستثمرين في أسواق المال والعملات، حيث واجه المستثمرون تحديات الحرب الروسية على أوكرانيا، والارتفاع الجنوني في معدلات التضخم والفوائد المصرفية وتداعياتها على عملات الأسواق الناشئة وأوروبا واليابان، ومخاطر الركود الاقتصادي العالمي، وانهيار سوق العملات المشفرة، إلى جانب جائحة كورونا في الصين التي أثرت على سلاسل الإمداد العالمية. لكن هل يستمر هذا الوضع الكارثي؟ وكيف ينظر خبراء المال والاستثمار للعام المقبل 2023؟ وما هي توقعاتهم؟
ترجح العديد من المصارف العالمية أن الظروف القاسية التي مرت بها الأسواق الدولية في العام الجاري ربما تستمر في العام المقبل 2023، وإن كانت هناك بعض المؤشرات المبشرة بتراجع معدل التضخم في الولايات المتحدة وربما في أوروبا.
على صعيد الاقتصاد الأميركي، الماكينة المحركة للاقتصاد العالمي، يتوقع مصرف "جي بي مورغان" أن يواصل مصرف الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) زيادة الفائدة المصرفية حتى الربع الأول من العام المقبل لتصل إلى 5%، ثم يتوقف عن رفع الفائدة في بداية الربع الثاني من عام 2023. ومن المتوقع أن تتبع معظم المصارف المركزية الكبرى في العالم نهج مصرف الاحتياط الفيدرالي. ولكن المصرف الأميركي يتوقع أن يقود تفاقم جائحة كورونا في الصين وأزمة الغاز الطبيعي في أوروبا إلى دخول الاقتصاد العالمي في دورة ركود قد تكون معتدلة في الولايات المتحدة، ولكنها ربما لن تكون عميقة في أوروبا.
في هذا الصدد، يقول رئيس أبحاث السياسة والاقتصاد في مصرف "جي بي مورغان"، بروس كاسمان، في تحليل منشور على موقع المصرف، إن "الاقتصاد العالمي لا يزال يعاني من أزمات سلاسل التوريد وصدمات أسعار السلع". ولكنه "لا يرى أن الاقتصاد العالمي في خطر وشيك بالانزلاق إلى الركود في أوائل عام 2023"، أي أن الركود ربما يتأخر حتى النصف الثاني من العام.
من جانبه، يبدو مصرف "سيتي بنك" متفائلاً أكثر، ويرى أن الضغوط التي يعاني منها الاقتصاد الأميركي ومخاوف الدخول في الركود العميق ستدفع مصرف الاحتياط الفيدرالي إلى العودة إلى خفض الفائدة على الدولار. ويتوقع المصرف الأميركي، في تقرير على موقعه، أن يدخل الاقتصاد العالمي دورة ركود في العام المقبل بسبب سياسة تشديد الاحتياط الفيدرالي للفائدة المصرفية. ويرى أن سياسة التشديد النقدي ورفع سعر الفائدة ستؤدي إلى تراجع الإنفاق الاستهلاكي في أميركا بنحو 5% في العام المقبل، كما ستقود إلى تراجع إيرادات الشركات الأميركية بنسبة 10%. وسينعكس ذلك سلباً على سوق المال الأميركي، مما سيدفع مجلس الاحتياط الفيدرالي إلى التراجع عن سياسة تشديد السياسة النقدية والعودة إلى خفض الفائدة.
من جانبها، ترى الخبيرة في مصرف "رويال بانك أوف كندا"، جانيت موي، أن الاقتصادات الكبرى ربما لن تتمكن من الإفلات من الدخول في دورة ركود اقتصادي في العام المقبل، ولكنه سيكون ركوداً معتدلاً، وقد لا يستمر لفترة طويلة.
وتشير في هذا الصدد إلى العوامل الإيجابية التي تدعم هذا الركود المعتدل، وتقول إن سوق العمل في الاقتصادات الرأسمالية الكبرى جيدة وربما تستمر كذلك، وهناك فرص وظائف عديدة متوفرة، كما أن القطاع المصرفي في هذه الدول يتمتع برسملة ممتازة، ومن غير المتوقع أن تشهد أسواق المال أزمة مالية وعجزاً في السيولة مثل تلك التي ضربت الأسواق العالمية في عام 2008.
على صعيد مستقبل سوق "وول ستريت"، أكبر الأسواق العالمية، تتباين التوقعات لأداء السوق، حيث يتوقع مصرف "جي بي مورغان" أن يؤدي تراجع معدل التضخم وتوقف رفع الفائدة على الدولار إلى تعافي أسعار الأصول الأميركية في النصف الثاني من العام، وبالتالي ارتفاع مؤشر "ستاندرد آند بورز 500"، وهو المؤشر الرئيسي لقياس أداء سوق "وول ستريت" لينهي عام 2023 لدى 4200 نقطة.
من جانبها، ترى وكالة بلومبيرغ أن مؤشر ستاندرد آند بورز سينهي العام المقبل لدى 4009. ولكن نشرة "سيكينغ ألفا" تبدو متشائمة حول مستقبل الأسهم الأميركية، إذ ترى أن مؤشر "ستاندرد آند بورز 500" سيتراجع بمعدل حاد وسينهي عام 2003 لدى 2685 نقطة.
أسواق الصرف
على صعيد أسواق الصرف يرى أغلب خبراء العملات أن الدولار سيحافظ على قوته الحالية في العام المقبل، حتى في حال توقف مجلس الاحتياط الفيدرالي عن رفع الفائدة الأميركية، بسبب الطلب القوي على العملة الأميركية من قبل الشركات العالمية والدول التي لديها مستويات مرتفعة من الديون الدولارية وترغب في تسويتها قبل حلول موعدها حتى لا تقع في قائمة التخلف عن السداد.
ويتوقع محللون أن تنخفض عوائد سندات الخزانة الأميركية لأجل 10 سنوات إلى 3.4% بنهاية عام 2023، كما من المتوقع أن تتراجع العائدات الحقيقية على السندات بسبب التضخم. ويستبعدون أن يظل التضخم وسياسة سعر الفائدة الفيدرالية في مقدمة اهتمامات المستثمرين في عام 2023.
وفي استطلاع توقعات مصرف "جي بي مورغان" لعام 2023 صنّف المستثمرون التضخم والفائدة الأميركية على أنهما الأهم بالنسبة لأسواق الدخل الثابت في الولايات المتحدة في العام المقبل، يليه الركود في الولايات المتحدة.
ويتوقع مصرفيون أن يخفض مجلس الاحتياط الفدرالي وتيرة التشديد بشكل أكبر، ويقدم زيادات بمقدار 25 نقطة أساس في اجتماعاته في شهري فبراير/ شباط ومارس/ آذار، قبل أن يتوقف عن خفض الفائدة وربما اللجوء لاحقاً إلى خفضها في النصف الثاني من العام. ويتوقع مصرفيون أن يتواصل ضعف الجنيه الإسترليني، بسبب الانكماش الاقتصادي المتوقع في العام المقبل.
أزمة الطاقة
كما أن أزمة الطاقة ربما تجر أوروبا إلى مستنقع اقتصاد عميق ما لم تتم تسوية الحرب الروسية في أوكرانيا. وتمكنت أوروبا حتى الآن من الاحتفاظ باحتياطات مرتفعة من الغاز الطبيعي لفترة الشتاء الجارية، ولكن أسعار الغاز لا تزال مرتفعة وتؤثر على الأداء الصناعي والحياة المعيشية للمواطنين ومعدلات الإنفاق الاستهلاكي. وبالتالي، ستؤثر هذه العوامل سلباً على عملة اليورو والعملات الأوروبية الأخرى. على صعيد أسعار النفط والغاز في أوروبا، يتوقع مصرف "أي أن جي" الهولندي أن تتراجع أسعار الغاز الطبيعي عن تلك المستويات المرتفعة التي شهدتها في وقت سابق من العام الجاري.
ويرى المصرف أن المخاوف في السوق الفورية خفت بشأن إمدادات الغاز، ومع ذلك يقول إن مخاوف الطلب تلقي بثقلها على معنويات المستثمرين تجاه النفط.
وترى معظم مؤسسات الاستثمار في الطاقة أن أسعار النفط سترتفع بسبب مواصلة "أوبك+" خفض الإمدادات، أملاً في عودة الأسعار إلى مستويات فوق مائة دولار في العام المقبل.
على صعيد الغاز الطبيعي، يرى مصرف "جي أن بي" الهولندي أن الطقس المعتدل في الجزء الأول من موسم التدفئة أدى إلى ضمان استمرار أوروبا في بناء المخزونات في الشتاء. واستمر تخزين الغاز الطبيعي في النمو في الاتحاد الأوروبي حتى منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني، حيث وصل إلى ما يقرب من 96%، وهذا أعلى من متوسط الخمس سنوات البالغ 88% تقريبًا لمنتصف نوفمبر/ تشرين الثاني. وهذا يترك أوروبا في وضع أفضل من المتوقع لهذا الشتاء، وبالتالي من المتوقع أن تكون الأشهر القليلة المقبلة أكثر قابلية لتمكن أوروبا من إدارة الغاز الطبيعي في مستويات سعرية معقولة.
على صعيد سوق المعادن، يقول رئيس استراتيجية المعادن الأساسية والثمينة في "جي بي مورغان"، جريج شيرر: "بعد أن وصلت أسعار المعادن إلى أدنى مستوياتها في منتصف العام الجاري، من المقرر أن تشهد المعادن دورة تراجع أخرى في العام المقبل، بسبب الركود الاقتصادي المتوقع في اقتصادات الدول الكبرى وأزمة كورونا في الصين".