انتهت حياة محاسب على يد زوجته في قرية "طنط" التابعة لمركز مدينة "طوخ" الواقعة في قلب دلتا مصر، بعد شجار وقع بينهما على قيمة شحن عداد الكهرباء بشقة الزوجية ليلة عيد الأضحى الماضي. الخلاف داخل الأسر لم يكن الأول من نوعه، فقد أصبحت فاتورة الكهرباء "باب فتنة شهرية" بين الجيران، في المناطق الشعبية أو أكثرها رقيا.
ومنذ 6 سنوات يعيش المصريون مأساة الارتفاع في فواتير الكهرباء دوريا، بما خلق أزمة بين الجيران عند احتساب تكاليف إنارة السلالم وتشغيل المصاعد ومواتير رفع المياه التي لولاها لما وصلت المياه إلى داخل شققهم، لأعلى من طابقين.
هذا الخلاف يتجدد خاصة مع لجوء كثير من البيوت إلى تركيب العدادات مسبقة الدفع، التي تلزم المستهلكين بالشراء الفوري للكهرباء، بما يعني أن البيت أو المكان الذي لا يملك رصيدا كافيا تنقطع عنه أهم سلعة في حياته اليومية، وحرمانه تلقائيا من مياه الشرب وتشغيل الهواتف والمكيفات، أي يصبح في خطر وعزلة عن العالم.
منذ 6 سنوات يعيش المصريون مأساة الارتفاع في فواتير الكهرباء دوريا، بما خلق أزمة بين الجيران عند احتساب تكاليف إنارة السلالم وتشغيل المصاعد ومواتير رفع المياه
ربما الأهمية الكبيرة للكهرباء هي التي دفعت الزوجة إلى مطالبة القتيل بسرعة شحن العداد، لأن البيت بدون كهرباء سيتحول إلى جحيم، وبخاصة أن الجهات المعنية حصلت في حينه على إجازة رسمية استمرت 10 أيام. احتدم النقاش فكان مصير رب الأسرة القتل، وتحول البيت إلى مأتم في مشهد سمعت بمأساته كل الأسر المصرية، بعدما انتشر الخبر في كافة الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي.
مرّ الخبر على المسؤولين مرور الكرام، لاسيما أنه جاء في إجازة العيد، وبعد أيام من إعلان وزير الكهرباء والطاقة الدكتور محمد شاكر عن تطبيق الشريحة الرابعة لرفع الأسعار المتفق عليها مع صندوق النقد الدولي، منذ عام 2016، والتي جعلت المواطن الذي يستهلك 50 كيلوواتاً يدفع 48 قرشا لكل كيلوات، بدلا من 38 قرشا.
وزاد السعر للشريحة الثانية حتى 100 كيلووات من 48 إلى 58 قرشا، والشريحة الثالثة حتى 200 كيلو من 65 إلى 77 قرشا، والشريحة الرابعة حتى 350 كيلو من 96 إلى 106 قروش والشريحة الخامسة من 350 إلى 650 كيلوواتاً من 118 إلى 128، والشريحة المستهلكة لألف كيلو من 118 إلى 128 قرشا، وما فوق ذلك يدفع 145 قرشا لكل كيلووات عدا الضرائب والرسوم الخاصة بكبار المستهلكين ونوعية الخدمات التي تقدمها.
اعتبر وزير الكهرباء إعلانه الأسعار نوعا من الشفافية، من الدولة مع المواطنين، بينما لم يناقش ذلك مع البرلمان أو أية قوى سياسية، رغم أن الظروف الاقتصادية والدولية ساءت خلال العامين الماضيين، بما كان يتطلب عدم سيره كالقطار الأعمى على قضبان سكك حديدية في أمور يعلم الوزير وحكومته أنها لن تشعل خرابا داخل الأسر فقط، بل تهدد مصير الاقتصاد الكلي في الدولة.
فالوزير لم يطلع على تقرير صندوق النقد الدولي الذي اتفق معه منذ 5 سنوات على برنامج زيادة الأسعار هذه، الذي يحذر فيه من أن مصر والدول العربية الواقعة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، كانت تعاني من انخفاض نمو الناتج القومي وارتفاع البطالة ومستويات الديون، قبل جائحة كورونا 2020، في حاجة إلى إصلاح عاجل لبرامج الدعم الموجهة إلى الطاقة والغذاء والمياه والإنفاق على شبكات الأمان الاجتماعي حيث ستزيد معدلات الفقر في المنطقة خلال العام الحالي ما بين 15% إلى 59%، بسبب تبعات كورونا والأزمة الاقتصادية المرتبطة بها.
زيادة أسعار الكهرباء والغاز والوقود قبل 7 أسابيع، بنسبة نحو 9.1%، تسببت في رفع معدل التضخم السنوي بكافة السلع والخدمات بمتوسط بلغ 5.4% في يوليو 2021، مقابل 4.9% في يونيو 2021
هذا التقرير كان في حوزة الوزير قبل مقتل رب الأسرة، وربما لو اطلع عليه لما وقعت هذه الفعلة الشنعاء، ولكن من الغريب أن البنك المركزي المصري والجهاز المركزي للمحاسبات، بمجرد صدور فواتير الكهرباء بالأسعار الجديدة، أعلنا في تقرير مفصل أن زيادة أسعار الكهرباء والغاز والوقود مطلع يوليو الماضي، بنسبة نحو 9.1%، تسببت في رفع معدل التضخم السنوي بكافة السلع والخدمات بمتوسط بلغ 5.4% في يوليو 2021، مقابل 4.9% في يونيو 2021.
بعبارة أخرى، إن التضخم التهم نسبة النمو المستهدفة من الحكومة وأشعلت فاتورة الكهرباء فتنة في السوق، ولم تتوقف عند الشجار داخل الأسر وبين الجيران، ولكن تسببت في موجة غلاء طاولت المسكن وتكاليفه اليومية والشهرية والمأكولات بأنواعها والملابس وكافة الصناعات، بل والرحلات الترفيهية في أنحاء البلاد.
عودة إلى مبررات الوزير لرفع أسعار الطاقة في مؤتمره الأول منذ 6 سنوات، وجدنا دفاعه عن ذلك بضراوة، لـ" إعادة هيكلة قطاع الكهرباء، بعدما ظلت الأسعار ثابتة لمدة 10 سنوات خلال الفترة من عام 1994 إلى 2003، ثم زادت بنسب طفيفة خلال الفترة من 2004 إلى 2008، بما خلق فجوة بين سعر البيع والتكلفة".
وهذا القول رغم أهميته، إلا أننا من المتابعين عن قرب لمباحثات مصر وصندوق النقد الدولي خلال هذه الحقبة؛ فقد عرفت البلاد ما يسمى بنظام شرائح الاستهلاك والتي تحركت خلال منتصف التسعينيات مرتين على الأقل، وأوجد ما يسمى بالتكلفة الاقتصادية لإنتاج الكيلووات بدلا من إجبار الصندوق الدولي مصر على البيع وفقا لأسعار الطاقة عالميا. بما يعني استمرار دعم الطاقة في الموازنة العامة للدولة، مراعاة لمحدودي الدخل وخاصة في الاستخدام المنزلي وصغار المزارعين وبعض الصناعات الحيوية في الدولة كالألومنيوم، والحديد والأسمنت والأسمدة.
وبلغ متوسط التكلفة عام 2015 وفقا لتصريحات الوزير للصحف نحو 47.4 قرشا لكل كيلووات ساعة، بينما بلغ متوسط التكلفة 2021، وفقا لتقارير الوزارة 121.3 قرشا، تصل قيمة البيع للشرائح التجارية والإدارية، والسياحية والإنارة العامة وأكثرية المستهلكين في المنازل لسعر 149.5 قرشا للكيلووات.
استجابت الحكومة لتهديدات رجال الأعمال الذين يشكون منذ سنوات من التهاب فواتير الكهرباء التي فاقت أسعارها الجهات المنافسة لمنتجاتهم في المنطقة
ورغم إعلان الوزارة تأجيل أية زيادة للقطاع الصناعي العام الحالي بسبب الوباء، فإنها رفعت الأسعار للقطاع الزراعي، وهو الأكثر احتياجا لدعم الدولة، واستجابة لتهديدات رجال الأعمال الذين يشكون منذ سنوات من التهاب فواتير الكهرباء التي فاقت أسعارها الجهات المنافسة لمنتجاتهم في المنطقة وعلى رأسها الموجودة في السعودية والإمارات وقطر.
وتظهر بيانات الموازنة العامة للدولة المصرية للعام المالي الحالي 2021، عدم وجود مخصصات مالية لدعم أسعار الكهرباء، بما يؤكد أن الشركات مسؤولة عن ذاتها في تدبير التكاليف اللازمة للتشغيل، وبما أنها توزع أرباحا على العاملين بها ووافقت للأجهزة الأمنية والشركات التابعة لها على قيامها بخدمات تحصيل الفواتير، فذلك يؤكد قدرتها على الكسب الجيد من بيع سلعة حيوية في الدولة.
كما عطلت الوزارة عددا لا يستهان به من مشروعات الطاقة الجديدة، التي دخلت السوق المصري، خلال السنوات السبع الماضية، بعدما طلبت من المستثمرين تخفيض أسعار الكيلووات ساعة المبيع للدولة من هذه الشركات من 125 قرشا إلى 85 قرشا، بعدما اطمأنت الوزارة إلى وجود فائض من الغاز الطبيعي لمواجهة زيادة الاستهلاك سنويا.
وتبين من تقارير الوزارة ذاتها أن حاجتها لرفع الأسعار ليست بسبب زيادة تكلفة التشغيل وإنما لتراكم الديون على القطاع، التي تزيد حاليا عن 300 مليار جنيه، لجهات أجنبية ومحلية، بسبب التوسع الكبير في مشروعات التوليد بطريقة الإسناد المباشر لشركات ألمانية وأميركية وفرنسية وإيطالية في السنوات الأخيرة، بما يفيض عن احتياجات الشبكة الموحدة بنحو 40% وهي نسبة تفوق المعدلات العالمية بنحو الضعف.
ومع قلة الاستهلاك في الصناعات والخدمات، التي تأثرت بالوباء، والأسر التي خفضت استهلاكها شهريا، وعدم قدرة الشركات على بيع الفائض إلى الأردن وغيره رغم وجود شبكة كهرباء مرتبطة بالمشرق العربي منذ 15 عاما، أدى الأمر إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج بطريقة غير مبررة، وزاد الأمر سوءًا مع زيادة سرقات التيار إلى نحو 20% من الجهود الموزعة بأنحاء البلاد، بسبب الفقر والفساد الإداري، بينما متوسط الفقد لا يزيد عن 8% في الشبكات الدولية.
تكشف قضية مقتل المحاسب على يد شريكة حياته، بسبب الخلاف على كمية وقيمة استهلاك الكهرباء، كيف تصيب سياسات عمياء الأسر في مقتل
تكشف قضية مقتل المحاسب على يد شريكة حياته، بسبب الخلاف على كمية وقيمة الاستهلاك للكهرباء، كيف تصيب سياسات عمياء الأسر في مقتل، فهي لم تراع البعد الاجتماعي لسلعة حيوية.
وبينما تسكت الوزارة عن تحصيل حقوق الشركات لدى جهات حكومية وتتغاضى عن غيرها من الجهات السيادية، يظل المواطن ملاحقا بدفع الفاتورة السياسية والإدارية التي يسير عليها قطاع الكهرباء وغيره منذ سنوات.