يواجه سوق العمل في مصر حالة اضطراب مستمرة منذ سنوات، شهدت توقفاً عن توليد فرص عمل بالقطاع الحكومي والعام، وتخفيضاً مستمراً بعدد العاملين في القطاع الخاص، زادت وتيرته العام الحالي. تدفع الأزمة المالية والقيود المشددة على الواردات إلى وقف العمل بآلاف المصانع، خاصة المشروعات الصغيرة، ورفعت معدلات البطالة وشكلت ضغوطاً على ملايين المواطنين من العاملين في القطاع غير المنظم.
يفرض صندوق النقد الدولي قيوداً على تعيين الحكومة العمالة المنظمة، أدت إلى عجز شديد بالمعلمين والعمالة الفنية، فالتفت الحكومة على تلك القيود، بتعيين مدرسين وعمالة غير منظمة، تمول من حسابات الصناديق الخاصة بعيداً عن موارد الموازنة العامة التي يراقبها الصندوق.
يعمل المعينون بأجور يومية زهيدة، من عوائد رسوم يفرضها المحافظون والوزراء بالقطاعات الخدمية والإنتاجية. أصبح سوق العمل يضم أغلبية كاسحة من الطاقة العاملة غير المنظمة، في ظل غلاء فاحش، في أسعار السلع، وتراجع بقيمة الجنيه، ساهما في تراجع قيمة الدخل الحقيقي للمواطنين.
برامج العمل بالسخرة
عادت ظاهرة عمال الترحيلات المنبوذة شعبياً، لصلتها ببرامج العمل بالسخرة في عهد الاحتلال الإنكليزي، لتشكل مصدراً مهماً لتشغيل العمالة غير المنظمة، في مشروعات البنية الأساسية، التي تنفق عليها بسخاء، بلغت تكاليفها نحو 8 تريليونات جنيه خلال 9 سنوات (الدولار = نحو 31 جنيهاً). أدى تعثر الحكومة مالياً إلى الحد من الاستثمار في مشروعات عامة، رفعت معدلات البطالة، وجاءت العمالة غير المنظمة على قائمة المتضررين.
يشير الخبير الاقتصادي إلهامي الميرغني، في حديثه لـ"العربي الجديد"، إلى عمل 19 مليون شخص بأجر نقدي، منهم 5.5 ملايين عامل يعملون بالحكومة والقطاع العام، والشركات المملوكة للدولة، و13.5 مليوناً بالقطاع الخاص. يمثل العاملون بالقطاع الخاص 70% من الطاقة العاملة، وينقسمون إلى فئتين؛ الأولى بعدد 7 ملايين شخص بالقطاع الخاص المنظم، و6.5 ملايين عمالة غير منظمة.
يوضح الميرغني أن العاملين بالحكومة يخضعون لقانون الخدمة المدنية، بينما تخضع أجور عمال القطاع العام للقانون 12 لسنة 2003، عدا أصحاب المعاشات وأسرهم، الذين يخضعون لقانون التأمينات الاجتماعية. تشمل العمالة غير المنتظمة العمالة المؤقتة والموسمية والحرة، ومن يعملون بعقود عمل غير رسمية ولا يتمتعون بحقوق كاملة كالتأمين الصحي والاجتماعي والحصول على إجازات مدفوعة الأجر. تعاني العمالة غير المنتظمة من عدم ضمان الدخل الثابت أو توفير بيئة آمنة وصحية، وغياب الحماية القانونية في بيئة العمل.
تصرف الدولة علاوات دورية للموظفين بالدولة والقطاع العام والتأمينات، وتفرضها على العاملين بالقطاع الخاص، الذي لا يلتزم بمعظمه، بالضوابط الرسمية، في ظل غياب دور المجلس القومي للأجور والأسعار والتنظيمات النقابية العمالية والمهنية، والتمثيل الشكلي لاتحاد العمال الحكومي، الذي يمد سطوته على 4 ملايين عامل، يمثلون 20% من العاملين بأجر، بينما 80% من العمالة تظل بعيدة عن النقابات.
توسع العمالة غير المنظمة
يؤكد الميرغني أنه رغم ما يعانيه الخاص المنظم فإن 6.5 ملايين شخص يعملون في المشروعات الخاصة غير المنظمة، بأعمال موسمية وغير دائمة، يبحثون عن أية فرصة للعمل الدائم، أملاً في الحصول على مظلة قانونية واجتماعية.
تحذر منظمة العمل الدولية، في تقاريرها الدورية، من التوسع في سوق العمل غير المنظم، مؤكدة أنه يحرم الأسر من الاستقرار المادي والاجتماعي، ويفقدها الثقة بالأمان الوظيفي، والحصول على رواتب تكفي الحدود الدنيا من الاحتياجات الأساسية، وتنعدم فرص التعليم المستمر، الذي يحتاجه سوق العمل.
زادت الفجوة بين العاملين بالدولة والقطاع الخاص، خلال السنوات الثلاث الماضية، تفاقمت حدتها، مع تطبيق قواعد الحد الأدنى بالدولة إلى 3500 جنيه للدرجة السادسة و4 آلاف للخامسة و4500 جنيه للرابعة و5 آلاف للثالثة و5500 للثانية و6500 للأولى و7 آلاف لحاملي الدكتوره منذ إبريل/ نيسان الماضي، بينما ظلت الأجور متدنية في القطاع العمل غير المنظم، عند مستوى 1200 جنيه شهرياً، مدفوعة بزيادة العرض وندرة الطلب على العمالة.
غياب التدريب والكفاءة
كشفت دراسة بحثية عن تحليل سوق العمل ربع السنوي، أجراها المركز المصري للدراسات الاقتصادية، عن الفترة من سبتمبر/ أيلول الماضي إلى ديسمبر/ كانون الأول 2022، تراجع الوظائف بجميع المحافظات والتخصصات والقطاعات عدا السياحة والبنوك. وتتراجع فرص العمل بقطاع التصنيع بشكل عام وفي صعيد مصر على وجه الخصوص، مع توقع باستمرار الظاهرة طوال عام 2023، وفقاً للدراسة.
تأتي وظائف مندوبي المبيعات وعامل الإنتاج وأمين مخزن ومبرمج وباحث ومحاسب على قمة الوظائف المطلوبة. يتنافس على الوظيفة الواحدة في مجال الاتصالات والبرمجيات 35 شخصاً، و150 في مجال الحقوق والمحاماة. وتظهر المنافسة بين المتقدمين على ضعف مستوى المهارة لدى الغالبية العظمى من المتقدمين للعمل في السوق المصري، حيث سجلت نسبة المتقدمين المؤهلين في مجال السياحة 4% فقط من طالبي الوظيفة، ترتفع إلى 10% في مجال الاتصالات والبرمجيات.
بينت الدراسة أن القاهرة العاصمة المركزية تستحوذ على 75% من الوظائف النوعية، وأنّ المدن الساحلية تتميز بانتشار الأعمال الموسمية، في حين تكثر الوظائف الحرفية في المحافظات الحدودية، وتتشابه جميع المحافظات بالتذبذب الشديد في إنتاج الوظائف، والتراجع المستمر في التأمينات الاجتماعية يقابله ارتفاع في الطلب على وظائف لا توفر تغطية تأمينية.
ووفق الدراسة، تشهد الفئة العمرية من 23-28 عاماً تراجعاً في الطلب على تشغيلها، وهي الأكثر شيوعاً في التركيبة السكانية، معظمها من الخريجين الجدد، بينما يرتفع الطلب على الفئة الأعلى منها ما بين 28-33 عاماً.
تظهر الدراسة تراجعاً مستمراً في وظائف الدوام الجزئي، وأنّ التراجع في معدلات البطالة رسمياً ناتج عن الإحباط وعزوف الشباب عن البحث عن عمل لا يجدونه.
تؤكد المدير التنفيذي للمركز المصري للدراسات الاقتصادية عبلة عبد اللطيف، في تصريح لـ "العربي الجديد"، أهمية مساهمة الدولة في تدريب العمالة غير المنتظمة على المهارات التي يطلبها سوق العمل، وربط الأجر بالمهارات، التي يجيدها العامل، ومنح تسهيلات ضرائبية للعمل الحر، تدفع الشباب إلى الإقبال عليه دون مخاوف من ملاحقة مصلحة الضرائب.
يتراجع مركز مصر في تقارير التنمية البشرية، للأمم المتحدة، خلال السنوات الماضية، حيث وصل عام 2020، إلى المركز 116، الذي أظهر أن معامل عدم المساواة في الدخل تصل إلى 36.5%، بما يزيد عن الضعف المحقق في تونس والأردن.
المصانع المتوقفة
بلغ عدد المصانع المتوقفة عن العمل ما بين 8 – 8.5 آلاف مصنع، منذ عام 2020، بعد اضطراب سلاسل التوريد، ودخول القطاع الصناعي غير النفطي في ركود مزمن مستمر منذ 30 شهرا، وفقا لبيانات مؤشر مديري الشركات، لمؤسسة ستاندرد آند بورز جلوبال، الصادرة مطلع يونيو / حزيران الجاري. تدفع معدلات التضخم وانهيار قيمة العملة والقيود المشددة على الواردات ومستلزمات التشغيل الشركات إلى تخفيض عدد العاملين. أثرت أزمة الواردات وقلة المخزون بالشركات سلبا على المشروعات الصغيرة وخاصة قطاع الغزل والنسيج والدواجن واللحوم والموبيليا والتشييد والمباني، تمتص أكبر عدد من العمالة غير المنتظمة بأنحاء البلاد.
معايير العدالة الاجتماعية
يدعو المنسق العام لدار الخدمات النقابية والعمالية، كمال عباس، إلى الاهتمام بمعايير العدالة الاجتماعية، بما يتضمن الأجر العادل والأمان الوظيفي وحق ممارسة الإضراب وإنشاء نقابات مستقلة تهتم بقضايا الأجور والأمان الوظيفي والعدال الاجتماعية بمفهومها الواسع، معبرة عن كل العاملين.
رصدت دار الخدمات النقابية، في بيان وجهته لـ"العربي الجديد"، تعرض كثير من العمال لعدم صرف مستحقاتهم لدى جهة العمل، مشيرة إلى أن قضايا الأجور والبدلات تمثل 60% من الانتهاكات العمالية التي وقعت عام 2022.
وفي المقابل، قدمت وزارة القوى العاملة منحاً لنحو 194 ألفاً و716 عاملاً، بقيمة 105ملايين جنيه لدعم برامج الرعاية الاجتماعية والصحية، عن حالات الوفاة والعجز الكلي والجزئي وعلاج المصابين من العمالة غير المنتظمة، خلال عام 2022. وعدت الوزارة بصرف 1000 جنيه خلال العام الحالي 2023، إعانة للفئات غير المستفيدة، من برامج الحماية الاجتماعية من مخصصات صندوق إعانة العمالة غير المنتظمة.
تصرف المبالغ وفقاً لبيانات الوزارة للعاملين المؤمن عليهم، وهم عادة من العاملين في قطاع التشييد والبناء، الذين يتمتعون بمظلة قانونية تجبر صاحب العمل بالتأمين على حد أدنى من عدد العاملين باليومية، مقابل تخفيضات ضريبية وامتيازات عند إسناد المشروعات العامة لشركته.
تعهدات حكومية
تعهدت الحكومة عام 2020، بإنشاء صندوق لتمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة، للعمالة غير المنتظمة، وتوفير الدعم المالي والفني لهم لتأسيس مشروعاتهم الخاصة، لم تلتزم به، رغم حصولها على دعم نقدي من الاتحاد الأوروبي، ومنظمات دولية تابعة للأمم المتحدة على مدار العامين الماضيين.
تشير أستاذ علم الاجتماع غي جامعة المنوفية ثريا عبد الجواد، في تصريحات صحافية، إلى أهمية العمل على وضع أولويات الإنفاق الحكومي العام، بعيدا عن الاستدانة، ووضع سياسات مالية منحازة للأغلبية الفقيرة، وتطوير قوى الإنتاج الذاتية القائمة على الموارد الخاصة للدولة، وإصلاح المنظومة الضريبة بما يضمن العدالة ومكافحة فساد التهرب الضريبي، وفرض ضرائب تصاعدية تحقق العدالة الضريبية كجزء من العدالة الاجتماعية الشاملة.
يحذر صندوق النقد الدولي من خطر زيادة الاضطرابات الاجتماعية في مصر مع انخفاض قيمة العملة، ومخاطر التضخم وفي السلع الأساسية، وتراجع معدلات النمو، داعياً الحكومة إلى إصلاحات فورية، تحسن الحالة الاقتصادية، وترفع الطلب على التشغيل، وتحدّ من البطالة.