اتجه الاقتصاد السوداني نحو منزلق خطير حيث أدت فوضى الحرب المندلعة منذ شهر إبريل/ نيسان الماضي، إلى انتعاش تجارة العملات المزيفة في العاصمة الخرطوم بعد الشلل الذي أصاب النظام المصرفي وأدى إلى شح كبير في السيولة.
ويأتي ذلك، وسط غياب تام لأجهزة الدولة، الأمر الذي أعطى فرصا كبيرة لعصابات العملات المزيفة من أجل زيادة نشاطها واختراق مختلف الأنشطة الاقتصادية، حسب مراقبين لـ"العربي الجديد".
وفي هذا الإطار، قال تجار ومواطنون لـ"العربي الجديد" إنهم لا يستطيعون التفريق بين العملات الأصلية والمزيفة التي تحمل أرقاما متسلسلة وتم تزييفها بدقة. وأوضحوا أن فئات الألف والخمسمائة والخمسين جنيها الأكثر عرضة للتزييف.
وقال تاجر رفض ذكر اسمه، إن تداول العملات المزيفة أصبح ظاهرة طبيعية في ظل انعدام السيولة في أيدي المواطنين، وغياب الرقابة الحكومية. وأوضح أن العصابات التي تتعامل بهذه النقود محمية من مليشيات مسلحة.
تاجر: العملات النقدية المزيفة ظهرت بصورة كبيرة في الأسواق ويعلم الكثير من الناس أنها مزيفة
ويعاني السودانيون من أوضاع اقتصادية ومعيشية خانقة في ظل تداعيات الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع التي اندلعت منذ نحو 5 شهور.
وقال التاجر السوداني عبد الحكم آدم، الذي يعمل فى سوق ليبيا غربي أم درمان وهو السوق الوحيد الذي يغذي جنوب وغرب أم درمان بالبضائع، إن العملات الورقية المزيفة باتت منتشرة ويتم التعامل بها بشكل طبيعي في بعض الأماكن لانعدام السيولة.
وأضاف أن العملات النقدية المزيفة ظهرت بصورة كبيرة في الأسواق ويعلم الكثير من الناس أنها مزيفة ورغم ذلك يتم تداولها ولا يمتنع المواطن أو التاجر عن استلامها لعدم وجود بدائل.
وأوضح آدم أن تداول هذه العملات يتم داخل الأسواق في العاصمة فقط ولا تستطيع نقلها إلى بقية الولايات.
في المقابل، لم تتقبل المواطنة آسيا التوم فكرة التعامل بالنقود المزيفة. وقالت: "إذا تقبلها المواطن ستصبح عادة وتخرب الاقتصاد". وحذرت من أن بعض من يتعامل بهذه النقود يمكنه أن يتاجر في المخدرات ويفعل أي شيء مخالف للقانون.
أما المواطن محمد بابكر، فيرى أن "الأوضاع أصبحت كارثية إذ لا توجد سيولة في أيدي المواطنين لتوقف الأعمال خلال الفترة الماضية". وأضاف أن العملات المزيفة ظهرت بشكل مفاجئ، خلال الفترة الأخيرة، وحركت الأسواق وبالتالي قبلها بعض المواطنين مجبرين، مشدّدا على عدم وجود رقابة أو محاسبة لعصابات التزوير، الأمر الذي جعل فئة من الشعب تقبل التعامل بأي طريقة من أجل استمرار الحياة والمعيشة.
وفي الوقت الذي غابت فيه التصريحات الرسمية حول مدى انتشار ظاهرة تزييف العملات داخل العاصمة الخرطوم التي تعج بالفوضى والصراعات المسلحة، كشف مراقبون عن طرق التزييف واستغلال عصابات منظمة حالة الاضطرابات المتفاقمة من أجل زيادة أنشطتهم.
خبير اقتصادي: هناك خلايا إجرامية متخصصة فى تزوير العملة المحلية دخلت البلاد خلال الآونة الأخيرة في ظل الهشاشة الأمنية
وحول طرق انتشار وتصنيع العملات النقدية المزيفة، يقول الخبير الاقتصادي محمد التوم، إن هناك خلايا إجرامية متخصصة فى تزوير العملة المحلية دخلت البلاد خلال الآونة الأخيرة في ظل الهشاشة الأمنية، تمتلك أجهزة حديثة تقوم بإجراء عمليات تقليد النقوش والرسوم والزخارف الموجودة على الورقة النقدية الصحيحة بألوان مائية يستخدم فيها المزور أنواعاً من الورق السميك تختلف عن سماكة وملمس الورقة النقدية الأصلية.
ويشير إلى نوع آخر من التزييف قائلا: "أحيانا يتم استخدام ورقة عملة صحيحة ويقوم المزور بإجراء تغيير فيها لتحويلها من عملة ذات فئة منخفضة إلى عملة ذات فئة أعلى".
وأكد أن العصابات تلجأ إلى وسائل حديثة وسريعة ومنها استخدام الطابعة الليزر، ويعد ذلك من أخطر أساليب التزوير لتقنيته العالية وجودته ومطابقته بشكل كبير للأوراق النقدية الأصلية.
في هذا السياق، قال الخبير المصرفي إسماعيل ياسين لـ"العربي الجديد" إن بنك السودان المركزي أقر في وقت سابق (قبل الحرب) بتزييف عملته من فئة 50 جنيها وطرح ورقة نقدية جديدة لمواجهة خطر التزييف، كما أنه عمل على تجديد العلامة التأمينية لورقة الألف جنيه.
وأضاف ياسين: "بذلك أقر البنك المركزي بضعف العلامة التأمينية للعملة السودانية، الأمر الذي يسهل عملية التزوير، مؤكد انتشار كميات كبيرة من فئة الـ50 جنيهاً مجهولة المصدر وغير مطابقة للمواصفات الفنية، خلال الفترة الأخيرة، الأمر الذي يؤكد تسرب عملات مزيفة إلى التداول في بعض الأسواق، ما أدى لزيادة السيولة بشكل واضح في بعض الأماكان وانفلات الأسعار".
كثفت السلطات الشرطية جهدها من أجل منع انتقال المستندات أو العملات المزيفة من الخرطوم إلى بقية ولايات السودان
وقال: لا يمكن الحد من انتشار العملات المزيفة فى البلاد وخاصة الخرطوم، خلال الفترة الحالية، لأسباب من بينها ضعف الرقابة بجانب الانفلات الأمني والمجتمعي الكبير، ما حوّل العاصمة إلى أرض خصبة للتزوير.
وتابع: تغيير العملة لمواجهة عمليات التزييف يحتاج إلى مبالغ ضخمة، وهي ليست في إمكانية الدولة حاليا.
وأضاف: حتى يتحقق ذلك ستظل الممارسات السلبية ترهق الاقتصاد وترفع من وتيرة التضخم وتدفع الاقتصاد السوداني إلى الانزلاق نحو مزيد من الهاوية.
وحسب مصادر رفضت ذكر هويتها، كثفت السلطات الشرطية جهدها من أجل منع انتقال المستندات أو العملات المزيفة من الخرطوم إلى بقية ولايات السودان، في الوقت الذي لم تعلن فيه أي جهة حكومية عن حجم الأموال المزيفة في الخرطوم بسبب فوضى الحرب وغياب الأجهزة الحكومية وتدمير المؤسسات الحكومية داخل العاصمة.
ويعتبر الخبير الاقتصادي الفاتح عثمان، تزييف العملة من أكبر مهددات الاقتصاد الوطني، محذرا من تحول التزييف إلى ظاهرة في مختلف ولايات السودان.
وأضاف: قد يصل التزوير إلى درجة يفقد فيها البنك المركزي القدرة على التحكم في السيولة النقدية وهي أحد أهم أدوات السيطرة علي التضخم.
وأوضح أن أغلب عمليات تزييف العملات محصورة حتى الآن في التصوير بالطابعات الملونة وهو تزوير يسهل كشفه ولهذا يتم غالبا القبض على المزورين في أول مراحل توزيعهم لتلك النقود، وهي حى الآن لا تمثل سوى نسبة صغيرة جدا من حجم النقود المتداولة وهي دون نسبة 5% من حجم الكتلة النقدية.
وأضاف أن مكافحة تزييف العملة تتطلب تحسين مستوى الأمان للعملة السودانية بشكل مطّرد وتشديد القوانين لتقترب من الإعدام لأنها من جرائم الإفساد في الأرض، بالإضافة إلى وقف الحرب التي فتحت الباب أمام تزييف العملة.
كشف متعاملون في سوق العملات لـ"العربي الجديد" إن سعر الدولار قفز إلى نحو 900 جنيه في السوق السوداء
وشهد سعر الجنيه السوداني في الأسواق تدهورا كبيرا مقابل الدولار، خلال الشهور الأخيرة، بعد شلل الحركة التجارية والاقتصادية وتدمير جزء كبير من قطاع المصارف.
وكشف متعاملون في سوق العملات لـ"العربي الجديد" إن سعر الدولار قفز إلى نحو 900 جنيه في السوق السوداء، في الوقت الذي يتراوح رسميا في البنوك ما بين 600 و700 جنيه.
وتوقع خبراء اقتصاد تواصل ارتفاع سعر صرف الدولار مع تدهور الأوضاع المعيشية والخدمية بولاية الخرطوم وانخفاض مستوى المعيشة للسكان وتدهور الأمن الغذائي في أنحاء البلاد، واستمرار الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.
وتشكل الحرب أحد أبرز تحديات الاقتصاد المتدهور، في وقت زادت فيه حدة الفقر والبطالة في البلاد مع توقف الأعمال وعدم صرف رواتب العاملين في الدولة.
ومنذ إبريل الماضي فقد مئات الآلاف من السودانيين وظائفهم وأعمالهم ودخلوا تلقائيا إلى قائمة العاطلين من العمل، في وقت أشارت فيه تقارير غير رسمية إلى دخول مليوني عاطل إلى القائمة.
وزاد العدد التقديري للأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي بشكل حاد في السودان بوتيرة أسرع من المتوقع إلى 20.3 مليوناً، أو ما يعادل 42 بالمائة من السكان، حسب الأمم المتحدة.