الغلاء يدفع المصريين إلى سوق المستعمل... رحلة شاقة لشراء الإلكترونيات بعد تعويم الجنيه
هرول عمار حمزة إلى سوق البستان للكومبيوتر والإلكترونيات، وسط العاصمة المصرية القاهرة، عقب استلامه حصته من مكافأة نهاية الخدمة وإحالته إلى التقاعد، لشراء حاسب آلي وطابعة. استمع حمزة إلى شيخ في الإذاعة، أثناء ذهابه بسيارة أجرة يقول: "احتكار السلع حرام ومن يغالي على الناس في الأزمات آثم"، فحاول أن يطمئن نفسه بأنّ المبلغ الذي انتظره طويلاً سيساعده على الوفاء بعهد قطعه لابنته طالبة الهندسة، منذ عام بشراء مستلزمات الدراسة بالمكافأة.
اعتقد الرجل الستيني أنّ هناك من يحمي تحويشة العمر ويردع التجار عن شططهم في رفع أسعار السلع، مع تدهور قيمة الجنيه وارتفاع الدولار.
يتذكر حمزة تهديدات ساخنة أطلقها علي المصيلحي وزير التموين واللواء محمود توفيق وزير الداخلية، لفرض الرقابة على الأسواق، لضمان عدم استغلال التجار للمواطنين، فيزداد قناعة بأنّ أسعار الأجهزة التي عاينها منذ أسبوعين، قبل استلام المكافأة، لن تتجاوز ميزانيته.
استهدف الرجل التجار الذين سبق الاتفاق معهم على الشراء، قبل "زلزال تعويم الجنيه" في الخميس الأخير من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، فصعقته مفاجأة لم تكن في الحسبان. رفع التجار أسعار أجهزة الكومبيوتر الحديثة بنسبة تخطت 25% دفعة واحدة، والطابعة ارتفعت بنسبة 30%، ما أربك حساباته.
التفت حمزة إلى التاجر مستغرباً من تحرك الأسعار بهذه النسبة المرتفعة خلال أيام، فعاجله الرجل: "إنه الدولار يا أستاذ". ترك حمزة المحل غاضباً، ليبحث عن سلعته في مكان آخر، بسوق تتسع لمئات المحال، يقع في عدة طوابق، فلم يجد ضالته.
السلع تتحول إلى عملة نادرة
وتحولت المنتجات الموجودة لدى التجار مع قفزات الدولار وقيود الاستيراد إلى عملة نادرة، لا يتصرفون في بيعها إلا لضرورة، أو حاجة إلى السيولة النقدية.
وانتشر في السوق الرئيسي للكومبيوتر والأجهزة الإلكترونية بالعاصمة بيع المعدات المستعملة، زادت نسبتها بالمكان، في الآونة الأخيرة، بعد وقف الحكومة عبر البنك المركزي الاستيراد من الخارج، إلا للسلع الاستراتيجية التي تحددها، بينما وعدت مؤخراً بإزالة قيودها نهاية العام الحالي.
يقول يحيى زكريا، وهو مدير شركة مبيعات في سوق البستان للكومبيوتر والإلكترونيات: "التجار لا يستطيعون الاستيراد من الخارج، منذ صدور تطبيق تعليمات البنك المركزي في فبراير/ شباط الماضي، واعتبار الحكومة السلع الكهربائية والكومبيوتر غير استراتيجية، لذلك فلا جديد في السوق إلّا بواقي المخازن".
يضيف زكريا أنّ "التجار بدورهم لم يعودوا يوزعون ما لديهم من مخزون إلّا للقادرين على دفع قيمة المنتجات نقداً، مع تحديد الأسعار كلّ أسبوع، منذ صدور تعليمات البنك المركزي، وكذلك بعدما فقد الجنيه أكثر من نصف قيمته أمام الدولار، إذ أصبحت الأسعار تحدد باليوم وأحياناً بالساعة".
يرفض التاجر في سوق البستان في حديثه مع "العربي الجديد" التصرف في ما لديه من أجهزة ومعدات، من دون أن يتلقى تأشيرة السعر السائد بالسوق، من التاجر المهمين على المنتج، لعدة مرات على مدار اليوم، لافتاً إلى أنّه أصبح للسلع مؤشر لحظي مثل بورصة الذهب، مربوط بسعر الدولار.
يبرر زكريا رفعه الأسعار بنسبة 25% بالمتوسط خلال 10 أيام بالارتفاع الكبير الذي شهده الدولار، والذي جعله يساوي 24.3 جنيهاً في البنوك، بانخفاض بلغ 25% عن قيمته منذ قرار التعويم الأخير نهاية الشهر الماضي، مشيراً إلى أنّ الشركات تتحوط لتراجع الجنيه، بمزيد من الرفع في سعر السلعة، لأنّ الجنيه يتراجع يومياً، خاصة أنّ سعر الدولار وصل في السوق السوداء إلى ما بين 26 و28 جنيهاً، وهو ما يعد المؤشر الحقيقي لسعر السلعة في الأسواق.
رغم تقادم الأجهزة الحديثة، عما ينتشر حالياً في الأسواق العالمية، إلّا أنّ السعر في السوق المحلية يفوق السائد في الدول العربية وغيرها بشكل لافت، في وقت رفعت فيه الحكومة الضرائب وتضع العراقيل أمام استيراد تلك المعدات للاستخدام الشخصي.
يفسر وليد الأشمنتي، وهو مدير شركات للكومبيوتر ونظم المعلومات، زيادة انتشار السلع المستعملة في السوق بانخفاض أسعارها نسبياً عن المنتجات الحديثة، وبعد أن عزت المنتجات الجديدة بما دفع المستهلكين إلى سوق المستعمل.
انتشار البضائع المستعملة
وأصبح من الطبيعي أن ترى في السوق من يستعين بخبير فني لمعاينة طابعة كبيرة أو يتفحص جهاز كومبيوتر قديماً. لم يعد يشتري إلّا من يحتاجون الأجهزة ولضرورة قصوى، فلا يغامرون بشراء المستعمل إلّا بوجود اتفاق على إرجاع البضاعة في حال عدم صلاحيتها، كما وجود ضمان، وإن كان لا يزيد عادة عن 3 أشهر، ومع ذلك فإن وجود الخبير الفني يعينهم على عدم الوقوع في فخ بضائع فاسدة.
لاحظت "العربي الجديد" ترتيب أسعار الأجهزة المستعملة حسب حالتها ودولة التصدير، فالاستعمال الأوروبي يكون أفضل من التركي والعربي. وحظيت أسعار المستعمل بنصيب من الغلاء هي الأخرى، يوازي 50% من قيمتها منذ مطلع العام، تكاد تقارب نسبة الزيادة في سعر المنتج الجديد، التي تراوحت ما بين 60% و100%، وفقاً لحجم المخزون والطلب على السلعة، كما يقول الأشمنتي.
لم تعد السوق الشهيرة تعج بالزائرين، على غير العادة، في بداية العام الدراسي، بما يعكس تراجع الطلب مع ارتفاع الأسعار، والتي يرصدها مؤشر مدير المشتريات بالشركات شهرياً، لشركة ستاندرد آند بورز العالمية، بأنّ هناك حالة من الركود المزمن الذي يسود الأسواق منذ عامين وتزايد بشدة في أكتوبر/ تشرين الأول، منذ فبراير/ شباط 2022.
يربط الخبراء حالة الركود في الطلب بزيادة ارتفاع الأسعار، ليولد وضعاً صعباً، يدفع الأسواق إلى ركود تضخمي، لا ينتظر أن يفارق الأسواق العام المقبل. وتلقى الأجواء الرمادية على الأسواق بظلالها، مع ذلك يفضل التجار حيازة السلعة على "التفريط بها بسعر يقل عما يتوقعون الحصول عليه، ليضمنوا تحقيق أرباح جيدة، تساعدهم في شراء بدائل بسعر يوقنون من زيادته، مع سوق لا قاع لها، ولا يقين في أدائها في المستقبل".
تتصدى أجهزة الدولة لمحتكري السلع بمانشيتات صحف رسمية من دون جدوى، كما لم تؤثر بشيء خطب الجمعة الموزعة من وزارة الأوقاف على مدار الأسبوعين الماضيين، حول الوطن ودور المواطنين في توفير السلع بأسعار رخيصة للمواطنين وحماية الأمن والأمان بالدولة. اكتفى جهاز حماية المستهلك بغرامات محدودة على 400 محل مخالف للتسعيرة، بخاصة المأكولات، مع وعيد للمتلاعبين بأسعار السلع بالحبس والمصادرة، في وقت أصبح مالك السلعة هو السيد، وما على المستهلك إلّا الخضوع لإرادة التجار. يحدد التجار حالة السوق وحجم العرض، ونوعية السلع التي يمكن أن يدفعوا بها لتحقيق أقصى ربح، هكذا يضع الستيني "حمزة" نتائج خبرته التي اكتسبها في رحلة البحث عن كومبيوتر وطابعة وبعض المستلزمات الكهربائية التي يحتاجها لتجديد منزله، استعداداً لرحلته في خريف العمر.
توجه حمزة للتعرف إلى أسعار السلع التي يريدها في تجمع آخر لبيع الكومبيوتر، بمنطقة روكسي في ضاحية مصر الجديدة، شرق العاصمة، فلم يكن الحال مغايراً لما رآه وسط المدينة. تتبدل الأسعار يومياً، ولا يُكتب السعر على السلعة، ليرتفع مع تغير سعر الجنيه مقابل الدولار، مع نقص شديد في قطع غيار الأجهزة، وانتشار بيع المستعمل. فالجديد نادر وغالي الثمن والقديم يتصاعد سعره.
في سوق عبد العزيز، لبيع الهواتف والأجهزة الكهربائية والمنزلية، وسط القاهرة، كانت الأوضاع أقل قتامة، إذ يلجأ التجار عادة إلى "حرق الأسعار" بالبيع أرخص من الأسواق الأخرى، طلباً للسيولة، مع ذلك لم يجد حمزة ما يطلبه من نوعية مميزة للمكيفات والثلاجات، فقد سادت السلع ذات السمعة الأسوأ، والتي تكثر عيوب النقل والتصنيع فيها، بالإضافة إلى مخلفات المعارض.
بدائل محلية
تنتشر السلع محلية الصنع، التي تعاني مصانعها من عدم توفر قطع الغيار، مع عدم قدرتها على استيراد المكونات من الخارج، فتعمل على توفير بدائل محلية بسعر "مهاود" للجمهور يلبي قدراته المالية، بغض النظر عن جودتها. يشكو تجار السوق قلة المبيعات، علماً أنّ السوق بلغ حجمها عام 2021، نحو 126.7 مليار جنيه مقابل 101.7 مليار جنيه عام 2020.
تسيطر أسواق العاصمة على 55% من قطاع الأجهزة الإلكترونية والكهربائية في الدولة، على مدار الأعوام الماضية وفقاً لإحصاءات اتحاد الغرف التجارية، تليها أسواق الإسكندرية، وبورسعيد والمنصورة وأسيوط، بما يبين أن حالة الركود السائدة في أكبر أسواقها وسط القاهرة، ستمتد عواقبها الوخيمة حتماً إلى باقي الأسواق.
يرفض تجار السلع الكهربائية والإلكترونية المشاركة في موسم التخفيضات التي تنظمه الحكومة حالياً بمناسبة "الجمعة البيضاء" التي تقام على غرار "الجمعة السوداء" نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، في الولايات المتحدة وأوروبا لبيع السلع بأقل الأسعار. بينما رفعت "أمازون" تلك السلع من قوائم المعروضات في مصر، واحتفظت مع غيرها من مواقع البيع الشهيرة والشركات الكبرى، ببعض السلع البسيطة، لأدوات المطبخ والغسالات والثلاجات، محدودة السمعة والطلب، فكان آخر القوائم المحددة للمستهلكين الصادرة في يناير/ كانون الثاني الماضي، قبل أن تأتي موجة التعويم الثاني للجنيه، ويتبعها التعويم الثالث الذي أتى على تحويشة العمر لـ"حمزة" كما على مداخيل غيره من المستهلكين.