- الحكومات التي تبيع أصولها لمواجهة التحديات المالية تنتهي بتحميل المواطنين أعباء القروض من خلال الضرائب وزيادة أسعار السلع والخدمات.
- يُقترح التوقف عن بيع أصول الدولة والتركيز على إدارة الموارد بحكمة، مع تبني سياسات التقشف وتشجيع الاستثمار المباشر لضمان استقرار الاقتصاد ومستقبل أفضل.
"تشتري غيط تجوع سنتين، وبعدها تشبع العمر كله، تبيع غيط تشبع سنتين، وبعدها تجوع العمر كله".
لا أعرف من نحت هذه العبارة الرائعة ورسم تلك الكلمات الدقيقة التي تعبر بدقة عن واقعنا الحالي.
والعبارة تعني ببساطة أن من يفرط بسهولة في أصوله وبيته وممتلكاته سواء أراضٍ زراعية أو عقارات وذهب وفضة وغيرها ويبيعها للغير، سيندم على ذلك في وقت لاحق، وربما يعض أصابعه كثيراً عندما يكتشف أنه أختار الحل السهل الذي يحقق له عوائد وسيولة سريعة وذلك في أول أزمة طارئة تواجهه.
من يفرط بسهولة في أصوله وبيته وممتلكاته سواء أراضٍ زراعية أو عقارات وذهب وغيرها ويبيعها للغير، سيندم على ذلك
صحيح أن البائع سيصبح غنياً أو مقتدراً مالياً بعض الوقت بحسب حصيلة البيع التي قد تغطي نفقاته سواء الثابتة أو المتغيرة والمديونيات المستحقة عليه.
لكنه في وقت لاحق لن يجد مصدر رزق أو أصلاً يعتمد عليه سواء كانت أراضي أو حتى وديعة وأسهماً، وأنه سيلجأ طال الوقت أم قصر إما إلى الاقتراض من البنوك والمؤسسات المالية، وهذه لها شروطها المشددة حفاظاً على أموالها، وإما العمل لدى آخرين.
وهنا وبعد أن كان الشخص صاحب أصول وأملاك وسيولة نقدية في البنوك ومن الأغنياء أو متوسطي الحال، بات أجيراً يعمل براتب ثابت أو بالأجرة واليومية لدى الغير سواء دولة أو مؤسسة أوشركة، وهذه الأجرة لن توجه إلى تمويل نفقاته واحتياجات أسرته، بل يوجه الجزء الأكبر منها إلى سداد الديون والأعباء المستحقة.
شخصياً بحثت عن أصل تلك العبارة " تشتري غيط تجوع سنتين، وبعدها تشبع العمر كله" ومن قالها وفي أي سياق، فلم أعثر على شي مدقق، سوى أنها منسوبة إلى "الفلاح المصري الفصيح شأن كثير من العبارات التي نسمعها دوماً في حياتنا اليومية، أو جاءت ضمن الأمثال الشعبية التي يرددها المصريون في مناسبات عدة.
ورغم ذلك لا أجد استحضاراً ونفعا أفضل لهذا المثل أو العبارة المنحوتة بدقة إلا هذه الأيام، فالعبارة قد تعبر بدقة عن العلاقة بين ثلاثة أطراف رئيسية، صندوق النقد الدولي وغيره من الدائنين، والمواطن، والحكومة أو الدولة.
بدلاً من أن تسعى الحكومات للتغلب على تلك الفجوات عن طريق تقليل الإنفاق العام تلجأ إلى الدائنين وصندوق النقد
ولنبدأ بالطرف الأخير صاحب الغيط، فالدولة تمتلك أصولاً ضخمة، وغالبا نجد أن حصيلة إيرادات تلك الأصول ومعها الرسوم العامة من ضرائب وجمارك وعائدات أنشطة اقتصادية مثل الصادرات والسياحة وتحويلات المغتربين وغيرها تكفي لتمويل النفقات العامة والمصروفات من أجور ورواتب واستثمارات وتطوير الخدمات وتمويل المشروعات الجديدة وغيرها في حال إذا ما أحسن إدارتها وتنميتها وتعظيم العائد عليها بصورة متواصلة وإبعاد شبح الفساد عنها.
وحتى إذا ما مرت الدولة بأزمة مالية طارئة لأسباب داخلية أو خارجية فإن الإيرادات العامة وعوائد المؤسسات المالية والاستراتيجية والخدمية الضخمة وتراكم الثروات وحصيلة الضرائب المتزايدة يوماً بعد يوم قد تكفي لتغطية تلك الفجوة.
لكن وبدلاً من أن تسعى الحكومات المتعاقبة للتغلب على تلك الفجوات عن طريق تقليل الإنفاق العام وحسن إدارة موارد الدولة، وتنشيط الاستثمار المباشر وجذب مزيد من الاستثمارات الأجنبية، هنا تلجأ إلى قروض الدائنين وفي المقدمة صندوق النقد.
وبما أن الحكومات وصلت إلى هذه النقطة، فإن الصندوق له مطالب مقابل منح قروض بمليارات الدولارات.
من أبرز تلك المطالب بيع أصول الدولة من عقارات وأراضٍ وبنوك وشركات والتخارج منها، وربما بيعها بثمن بخس عبر إجبار الدولة على التعويم المتواصل للعملة المحلية والتي تجعل من تلك الأصول جاذبة للمستثمرين الأجانب.
المواطن هو من يدفع كلفة وثمن تلك القروض الخارجية والداخلية، ويحاسب على المشاريب في النهاية من خلال تحمله زيادات متواصلة في الضرائب والرسوم الحكومية وأسعار السلع الرئيسية، ومنها الغذائية والبنزين والسولار والغاز والمواصلات العامة وغيرها.
هنا المواطن يعمل لدى الدائنين وليس عند نفسه، ضرائبه وزيادة أسعاره تؤول إلى الدائن الواقع هناك في واشنطن.
لا يقف الأمر عند هذا الحد، فبيع الدولة لأصولها يترتب عليه أمران خطيران؛ الأول هو تجفيف الإيرادات العامة من مصدر مالي مهم هو حصيلة إيرادات الشركات والبنوك والمؤسسات الاستراتيجية.
والأمر الثاني هو تحويل المشترين الأجانب الجدد لأرباحهم الرأسمالية نهاية كل عام، وهو ما يضغط ضغطاً متواصلاً على سوق الصرف والعملة المحلية.
المواطن هو من يدفع كلفة وثمن تلك القروض الخارجية والداخلية، ويحاسب على المشاريب في النهاية
ما الحل إذن؟
التوقف عن بيع أصول الدولة وسماع نصيحة الفلاح الفصيح حتى لو وصل الأمر إلى ارتداء حزام التقشف، المهم هو أن تكون البداية والقدوة من الحكومة، لا من المواطن المرغم على دفع مشاريب لم يتناولها، ورفاهية لم يلمسها، وقصور لم يسكنها.