أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن، يوم 26 يوليو/تمّوز 2021، عن إنهاء المهمّة القتالية للولايات المتحدّة في العراق بحلول نهاية السنة الجارية بعد اجتماعه برئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في البيت الأبيض.
لم يكن هذا الاتفاق، الذي جاء بعد أكثر من 18 عاماً من الغزو الأميركي للعراق، مفاجئاً للمراقبين الذين يتابعون عن كثب إستراتيجية أميركا الجديدة القائمة على التخلُّص من أعباء حروبها بالشرق الأوسط، ولا للعراقيين الذين اعتادوا منذ عدّة سنوات على غياب مشاهد الدبابات والجنود الأميركيين في الشوارع العراقية.
حتى بعض الأحداث كاغتيال اللواء قاسم سليماني قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، وتصويت البرلمان العراقي في الخامس من يناير/كانون الثاني 2020 لصالح طرد القوّات الأميركية من العراق، كانت شبيهة بتلك الرياح التي تسبق العاصفة، ومؤشراً قوّياً على اقتراب موعد الإعلان عن هذا الاتِّفاق.
ونظراً لاستحالة الانسحاب الأميركي التامّ من الأراضي العراقية نتيجة اصطفاف العديد من الدول استعداداً لملء الفراغ عسكرياً وسياسياً، أكَّد الرئيس بايدن على استمرار مساهمة قوّات بلاده في مدّ يد العون للجيش العراقي وتدريبه وتقديم المشورة العسكرية له في مهمة مكافحة الإرهاب، وما هذا إلا تكتيك أميركي للحرص على خدمة العراق للمصالح الأميركية الطويلة الأمد والحفاظ على النفوذ الأميركي فيه بأقلّ التكاليف والخسائر والأضرار.
قرَّر الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، سحب قوات بلاده من سورية بشكل مفاجئ يوم 19 ديسمبر/ كانون الأول 2018، ليتبعه بعد ذلك الرئيس الأميركي الحالي بايدن ويُقرِّر سحب القوات الأميركية من أفغانستان اعتباراً من أوّل مايو/أيار 2021 ثمّ يعلن بعد ذلك عن سحبها من العراق بحلول 31 ديسمبر/كانون الأول 2021.
هذه القرارات بطبيعة الحال هي نتيجة رؤية أميركية جديدة بعيدة الأمد، قوامها إحلال التكنولوجيا العسكرية المُسيَّرة عن بعد محلّ التواجد العسكري المكثَّف في مناطق الحروب، الذي كلَّف الولايات المتحدّة ملايين الأرواح وبلايين الدولارات.
تعتبر التقارير التي يصدرها معهد واتسون للشؤون الدولية والعامة في جامعة براون الأميركية من بين أهمّ النوافذ التي تُمكِّن أيّ شخص من الولوج إلى معلومات قيّمة عن التكاليف المادية والبشرية للحروب الأميركية في الشرق الأوسط، فحسب تقرير أصدره المعهد في يناير/كانون الثاني 2020 تحت عنوان "تكلفة الحرب المُموَّلة بالديون: الدين العام والفوائد المتزايدة للإنفاق على الحرب بعد 11 سبتمبر"، قُدِّر مبلغ الإنفاق على التواجد العسكري الأميركي في العراق بنحو ترليوني دولار.
وبلغت الفوائد التراكمية المرافقة لذلك الإنفاق 925 مليار دولار، والتي ستستمرّ في الارتفاع، حتى لو توقَّفت التدخُّلات العسكرية الأميركية في العراق على الفور، حيث يشير هذا التقرير إلى وصول مدفوعات الفوائد إلى أكثر من 2.14 ترليون دولار بحلول عام 2030 وإلى 6.5 ترليونات دولار بحلول عام 2050 بافتراض أنّ الإنفاق على الحرب الأميركية في العراق توقَّف كلياً السنة الماضية.
يُؤكّْد هذا التقرير على أنّ الإنفاق على الحروب يعتبر عنصراً مهماً في زيادة الدين العام الأميركي الذي سيرتفع حسب توقُّعات البيت الأبيض من 17 ترليون دولار في سنة 2019 إلى 25 ترليون دولار في سنة 2029.
وتعتبر هذه الأرقام أكثر رحمة ورأفة بالميزانية الأميركية، مقارنة بتلك التوقُّعات التي يشير إليها تقرير حديث لمكتب الميزانية في الكونغرس Congressional Budget Office (CBO)، والذي يتوقَّع أن يرتفع الدين العام لأميركا بحوالي 12 ترليون دولار خلال الفترة الممتدة من 2019 إلى 2029.
بطبيعة الحال يقع قسط مهم من الأعباء المالية للحرب الأميركية في العراق على عاتق دافع الضرائب الأميركي الذي دفع في المتوسِّط ما يقارب 8000 دولار لتمويل تلك الحرب التي لم تسمنه ولم تغنه من جوع، والذي سيستمرّ أيضاً في دفع الفوائد الناتجة عن تمويل تلك الحرب بالديون.
أصبح العديد من دافعي الضرائب الأميركيين على يقين تام بأنّ مبالغ كبيرة خرجت من جيوبهم لإرضاء رغبات حكامهم بدلاً من أن يتمّ تسخيرها لتعزيز البنى التحتية، وتحسين جودة التعليم وتقديم خدمات الرعاية الصحية الشاملة كخطوة هامة لانتشال ملايين الأميركيين من دوامتي الفقر والبطالة.
بحلول عام 2030، سيجد الأميركيون أنّهم قد أهدروا 2.14 ترليون دولار على الفوائد المصاحبة للإنفاق على الحرب الأميركية بالعراق، وليس على أيّ استثمار منتج أو حتى على عمل عسكري يمكن أن يجعلهم أكثر أماناً كما تدَّعي حكومتهم دائماً عند استنزاف ما في جيوبهم لحاجة في نفس يعقوب يعلمها مخطِّطو السياسة الأميركية.
تكلفة الفرصة البديلة "The opportunity cost" للإنفاق على التواجد الأميركي في العراق طيلة سنوات عديدة تتعدَّى بكثير مجرّد استغلال ترليونات الدولارات في مجالات التعليم، الرعاية الصحية، أمن الطاقة، البنية التحتية، خفض المديونية المستقبلية وخفض مدفوعات الفائدة لتمسّ أرواح الجنود الأميركيين التي أزهقت الصحة النفسية للناجين الذين سحلتهم الحرب الى العراق، حيث لا تتردَّد هوليوود في وخز صنّاع القرار الأميركيين من حين لآخر بالأفلام التي تُجسِّد المعاناة اليومية والمرارة التي عاشها الجنود الأميركيون في العراق والذكريات المقيتة التي عشَّشت داخل أرواحهم مثل فيلم القنّاص الأميركي "American Sniper" الصادر سنة 2014.
ومع تقدُّم التكنولوجيا، أصبحت أميركا أكثر ميلاً لتنفيذ الاغتيالات، شنّ الحروب وتدمير المنشآت باستخدام الطائرات دون طيّار والمُسيَّرة والصواريخ المتطوِّرة وانتهاج نوع جديد من التسلُّح الذي يُوفِّر المال والجهد والوقت ويحافظ على أرواح جنودها، وقد اتَّضحت ملامح هذا التحوُّل الاستراتيجي في الحروب الأميركية في الخارج في عهد الرئيس السابق ترامب، وترسَّخت بشكل أكبر في عهد الرئيس بايدن الذي لا يرى حالياً أيّ تهديد مباشر من الدول العربية المنهكة أو المُطبِّعة سواءً لأميركا أو لإسرائيل.
خلاصة القول، انسحاب القوات الأميركية لا يعني أبداً خروج أميركا من العراق وترك الجمل بما حمل للاعبين آخرين كإيران، روسيا والصين.
تعلم الولايات المتحدة تماماً كيف ترعى مصالحها ومصالح حلفائها في بلاد الرافدين، وهي تمدّ عينيها الآن إلى جنوب شرق آسيا وبحر الصين الجنوبي، وهي المنطقة التي تتحسَّس فيها أميركا قدوم ضربة قد تعيد لذاكرتها ما واجهته من أهوال في حربها مع فيتنام.